الحج موسم عظيم، وهو أحد أركان الإسلام، ومع ذلك فرض مع الاستطاعة كما قال تعالي: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، والاستطاعة تتطلب الصحة والزاد، والرحلة والمأوى والتأشيرة. وتعمل السلطات السعودية سنوياً وبتنظيم أمني وتقني كبير على مجابهة مخالفي أنظمة الحج، وابتكار وسائل تحد من المخالفات، ومنها هذا العام (بطاقة نسك)، التي تعتبر هوية الحاج، والذي تُميِّزه عن الحاج غير النظامي، ومع ذلك يتفنن شياطين الإنس باختراق تلك الأنظمة.. وتم تزوير بطاقة نسك والدخول إلى المشاعر المقدسة، بالرغم من الجهود الكبيرة في التفتيش في المنافذ لمنع الحجاج غير النظامين للدخول. وقبضت السلطات على مجموعة من مروِّجي الحج الوهمي الداخلي، وإدخال حجاج غير نظاميين من دروب صحراوية، متجاوزين حدود نقاط التفتيش الرسمية، وتم اكتشافهم عبر طائرات الاستكشاف، والقبض عليهم وتغريمهم، ليكونوا عبرة لغيرهم.
ولكن للأسف، هناك من دخلوا قبل عدة أشهر بتأشيرة الزيارة والعمرة، واختبأوا في مكة حتى موعد الحج ليحجوا مشياً على الأقدام، ثم الطامة الكبرى هي من سماسرة الحج الخارجيين، من شركات ومافيا سياحية في بلادهم، أدخلوا الحجاج بتأشيرات الزيارة، وأوهموهم بأنه مرخص لهم الحج، ولم يُوفِّروا لهم أدنى مقومات الحياة من مأوى، ومسكن، وطعام، وتركوهم يهيمون على وجوههم، وكانت النتيجة كما صرح معالي وزير الصحة الأستاذ فهد الجلاجل بوفاة ١٣٠١ حاج، منهم ١١٤٤ حاجا غير نظامي، بما يمثل ٨٣٪ منهم الذين مشوا لمسافات طويلة بلا مأوى ولا راحة تحت أشعة الشمس الحارقة، حيث وصلت درجة الحرارة إلى ٥٠ درجة مئوية، ومعظمهم من كبار السن، ويعانون من أمراض مزمنة؛ بالرغم مما قدمته وزارة الصحة من خدمات عالية، منها ٤٦٥ ألف خدمة علاجية تخصصية، وكان منها -غير المصرح لهم بالحج- ١٤١ ألف خدمة.. لتوجيهات القيادة بوضع صحة الإنسان أولاً وقبل أي اعتبار، هذا فضلا عما قُدم من خدمات النقل الإسعافي التي تجاوزت (٣٠ ألف) خدمة، منها ٩٥ عملية إخلاء جوي، وهناك غرف مجهزة بأحدث التقنيات لمواجهة الإجهاد الحراري وضربات الشمس.
وقد كشفت التحقيقات التي أجرتها تلك الدول، ومنها مصر وتونس والأردن بعمليات التلاعب التي رُصِدَت، وتوجيهات رئاسية بالتحقيق مع الشركات المتورطة في مصر، حيث تم سحب ترخيص 16 شركة سياحية مخالفة للنظام، وإحالة مسؤوليتها للنيابة العامة، حيث أنها لم تقدم أي خدمات للحجاج، ومما زاد الأمر صعوبة، ما أوضحه رئيس الوزراء المصري أنه تعذَّر متابعة أولئك المخالفين، لأن بياناتهم غير مسجلة في بعثة الحج الرسمية. كما أقال الرئيس التونسي قيس سعيد وزير الشؤون الدينية لأن من توفّوا أغلبهم من التأشيرات السياحية، وأكد أن من قصَّر أو خالف سينال جزاؤه.
وأعتقد أنه على كل دولة مراجعة أنظمتها وإجراءاتها بشأن إصدار التأشيرات، وفرض قوانين صارمة لمنع التلاعب، وتجريم كل من يكتشف أنه زوّر وتلاعب في تأشيرات الحجاج، فكيف بهم يأتون بلا مأوى ولا حافلة تنقلهم، ولا طعام ولا شراب، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).. ولكن السؤال: هل لو أننا قصرنا مدة التأشيرات للزيارة أو العمرة، بأن تنتهي بنهاية شهر رمضان المبارك كحل، فنقضي بذلك على بقاء المعتمرين والزائرين بتمديد الفترة إلى الحج؟.
والمعضلة، أن هناك أشباه علماء أفتوا للناس بالحج من غير تصريح، وهم الذين تقع على عاتقهم جريرة الوفيات.. أين ضمير الإنسان المسلم الذي يريد أن يحج بمخالفة تعاليم الدين الإسلامي، هذا فضلا عما يسببه ذلك من إرباك للسلطات السعودية في تنظيم الحشود، وعدم التعرف عليهم بسهولة لعدم حملهم لأي وثائق تثبت هوياتهم، إلى أن يأتي من يتعرف عليهم من بعض أفراد أقربائهم.
أما أولئك الناعقون بعدم قدرة السعودية على إدارة الحج، فالصورة الحقيقية ظهرت في هذا الموسم والحجاج يُهلِّلون ويُكبِّرون بالجهود السعودية الكبيرة التي يلاقونها، ومن جميع القطاعات الحكومية والخاصة، ودموع الفرح تُبرهن على صدق مشاعرهم وكلماتهم، فرسمت أجمل لوحة في الصدق لما لمسوه من عناية وخدمات تبهرهم، فهذه الدولة المباركة هي راعية للمقدسات الإسلامية منذ تأسيسها، وتزداد إشراقة خدماتها كل عام، لتُبرهن للعالم بالقدرة على التفرد في خدمة الحجيج.