Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

ثرثرة على السطر

A A
الكتابةُ، تلكَ المتعةُ التِي تمنحُكَ حقَّ البوحِ، تتركُ لكَ عنانَ الثرثرةِ حتَّى تكلَّ يداكَ، وينجلِي ركامُ الهمومِ مِن صدرِكَ.

الكتابةُ، تلكَ السَّاحرةُ التِي تؤنسكَ، تبعثُ فكرةَ تصرفُ نومَكَ، تلتقِي بِكَ علَى شاشةِ جهازِكَ المحمولِ، أوْ علَى صفحةِ ورقةٍ بيضاءَ تعالجُ عليهَا الفكرةَ أو الأفكارَ، ربَّما تكونُ قابلةً للنَّشرِ أو تظلُّ فِي سجنِ الأجهزةِ، أو بينَ الصفحاتِ.

الكاتبُ المحترفُ الذِي تعايشَ عمرهُ معَ الكتابةِ؛ يجدُ نفسَهُ مدفوعًا بقوَّةٍ خفيَّةٍ إلى البَّوحِ، وعرضِ أفكارِهِ؛ كأنَّ بوحَهُ يصبحُ ملكًا للجميعِ، مُشاعًا فِي صحيفةٍ أو كتابٍ، مقالةً أو روايةً، يشعرُ خلالَ ممارستهِ الكتابةَ أنَّ القارئَ الصديقُ الافتراضيُّ الذِي يبثُّهُ أفكارَهُ، وعندمَا يتوقَّفُ عَن الكتابةِ لأيِّ ظرفٍ طارئٍ، يشعرُ أنَّه توقَّفَ عَن التَّنفسِ. لذلكَ لَا يستطيعُ الكاتبُ التوقَّفَ مهمَا بلغَ بهِ العُمرُ، حتَّى عندمَا يغادرُهُ الجميعُ، لَا يغادرُهُ هذَا الارتباطُ الوثيقُ بالكتابةِ.

لَا أعرفُ منذُ متَى استهوتنِي الكتابةُ، لكنِّي أذكرُ أنِّي كنتُ شغوفةً بالقراءةِ، ثمَّ وجدتُ لديَّ القدرةَ علَى كتابةِ خواطرَ فِي دفاترَ أنيقةٍ بأقلامِ حبرٍ ملوَّنٍ أحتفظُ بهَا، وكأنَّها سرِّي الكبيرُ الذِي أحرصُ ألَّا يطَّلعَ عليهِ أحدٌ.

وفِي مرحلةٍ تاليةٍ أصبحتُ شغوفةً بقراءةِ الصحفِ، مقالاتِ الكُتَّابِ، والكُتبِ، حتَّى أنَّي تجرَّأتُ وأنَا فِي الصفِّ الأوَّلِ الثَّانويِّ علَى كتابةِ مقالٍ، وأرسلتهُ بالبريدِ لإحدَى الصُّحفِ، لمْ أصدِّقْ أَنِّي أرَى مقالتِي منشورةً فِي الصحيفةِ باسمِي الثُّلاثيِّ!.

كانتْ تلكَ المرَّة الأُولَى والأخيرة، بعدَ أنْ رأيتُ ردَّةَ فعلِ أبِي -رحمةُ اللهِ عليهِ- الحانيةَ المحفِّزةَ؛ كَي أُكملَ دراستِي أوَّلًا، حتَّى لَا تُعيقُنِي الكتابةُ عَن الدِّراسةِ، كانَ لأبِي خطَّةٌ لمستقبلِي، وكانَ للقدرِ خطَّةٌ أُخْرَى.

عصفتِ الرِّياحُ بسفنِ أبِي، وأبعدتَهَا عَن وجهتِهَا، معَ ذلكَ لمْ أتخلَّ عَن هذَا الشَّغفِ «الكتابةِ»، حتَّى شاءتِ الأقدارُ بالتَّوجُّهِ للكتابةِ الصحفيَّةِ في جريدةِ (المدينة)، بدعمِ أخِي (محمَّد) -حفظَهُ اللهُ- وتحفيزِ عملاقِ الصحافةِ الأستاذ (أسامة السباعي)، الذِي منحنَى فرصةَ الكتابةِ فِي صفحةِ الرَّأيِّ.

منذُ بدأتُ الكتابةَ المنتظمةَ لمْ أتوقَّفْ علَى مدَى ثلاثِينَ عامًا أوْ أكثرَ مِن الانتظامِ فِي الكتابةِ، وإرسالِ المقالِ فِي الموعدِ فِي كلِّ الظروفِ، خلالَ السفرِ، والمرضِ، والفَقْدِ، وفِي كلِّ الأحوالِ التِي مررتُ بهَا خلالَ تلكَ السَّنواتِ.

هذهِ المرَّة -ولأوَّل مرَّة- أجدُ نفسِي أمامَ مسؤوليَّاتٍ كثيرةٍ في مدَى زمنِيٍّ قصيرٍ، يتخلَّلُهُ سفرٌ، مسؤوليَّاتٌ أعاقتْ انتظامِي فِي الكتابةِ!.

القارئُ الآنَ ليسَ مختلفًا، ولكنَّ الوسائلَ اختلفتْ، لذلكَ -ربَّما- لَا يُفتقدُ الكاتبُ، ولا يُشعرُ بغيابِهِ، أو حضورِهِ، كمَا كانَ مرتبطًا بالصحيفةِ الورقيَّةِ، يتابعُ المقالاتِ ويتفقَّدُ كُتَّابَهَا، الآنَ المتابعةُ الإلكترونيَّةُ قلَّصتْ تلكَ العلاقةَ الحميمةَ بينَ الكاتبِ والقارئِ، رغمَ أنَّها يسَّرتْ علَى القارئِ الاطِّلاعَ علَى جميعِ الصُّحفِ، دونَ أنْ يذهبَ لشراءِ الصحيفةِ، أو يرسلَ اشتراكَهُ السنويَّ، ويتابعُ وصولَ صُحَفهُ المفضَّلةَ.

أحببتُ أنْ أُشاركَكُم مشاعرِي خلالَ فترةِ انقطاعِي عَن الكتابةِ، وإرسالِ مقالتِي، والتَّواصلِ معَ مشرفِ الصفحةِ، وترقُّب صدورِ الجريدةِ، ورؤيةِ المقالِ، كلَّ أسبوعٍ أشعرُ بنشوةِ الفرحِ وأنَا أُشاهدُ مقالتِي منشورةً في الصحيفةِ.

كل أسبوع كأنه الأسبوع الأول لنشر المقالة، وكأنها المقالة الأولى التي تنشر لي، هذه المشاعر ليست -بالضرورة- حاضرة أثناء الكتابة، وكأن الكاتب يحظى بمتع متعددة خلال ممارسته الكتابة: متعة البوح والإفضاء، ثم متعة الترقب والانتظار، تتوجها متعة النشر، لذلك شعرت بفراغ خلال الفترة الماضية، رغم المسؤوليات العديدة المتراكمة، وغير القابلة للتأجيل والإرجاء.

كنتُ فِي الطَّائرةِ أوْ السيَّارةِ يُخبرنِي هاتفِي أنَّه حانَ وقتُ الكتابةِ، أستغرقُ أحيانًا فِي تعبئةِ صفحاتٍ علَى جهازِ الآيفون، ظننتُ أنَّها تكونُ مادَّةً للنَّشرِ أعودُ بهَا للقياكُم، لكنِّي لمْ أشعرْ إلَّا برغبتِي فِي تقديمِ وجبةٍ طازجةٍ، كمَا أفعلُ دائمًا، لَا أرسلُ مقالةً جهَّزتُهَا مُسبقًا، بلْ أتجاوزُهَا وأُمارسُ الكتابةَ علَى البياضِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store