* الحالة التي صنعتها المحاورة الشعرية الظريفة بين الشاعرين محمد الجبرتي، وبكر الحضرمي؛ تؤكد وبقوة ما كنا قد أشرنا اليه في مقال سابق من جمال الموروث الشعبي السعودي واتساعه، وقدرته على البقاء والصمود في وجه الزمن، بل ومنافسة الحديث والجديد متى ما أُعطي الفرصة.. كما أثبتت المحاورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس أن من يستطيع الغوص في هذا البحر المشبع باللآلئ والكنوز؛ سيخرج حتماً بالكثير من الجواهر الثمينة التي ستخطف أنظار الناس وتدهشهم.
* نجاح (الردية) الحجازية الخالصة والتي أصبحت (ترند) في السعودية والمنطقة بعد أيام قلائل من طرحها، يعود لأكثر من سبب، أولها اللحن الفلكلوري الجميل وإيقاعه الراقص.. ثم الطرافة وخفة الظل التي عُرف بها الشاعران يرحمهما الله، خصوصاً الجبرتي الذي كان من ظرفاء عصره.. إلّا أن السبب الأهم لهذا النجاح الكبير - من وجهة نظري- يعود إلى اللهجة الجميلة والمفردات الآسرة التي صاغت هذه المعاني، وصبَّتها صباً في قلوب الناس، وهي لهجة القبائل العربية الحجازية الضاربة في أعماق التاريخ، والتي تشكل اليوم أحد أهم روافد ومكونات اللهجة السعودية البيضاء بنسبة لا تقل عن ٤٠٪.
* لطالما كان الحجاز بموروثه الفخم وثقافاته المتنوعة ولغته الفصيحة، مصدر إلهام للكثيرين، منذ أيام سوق عكاظ الجاهلي، وليالي منتديات مكة التجارية والدينية القديمة، ولو استعرضت الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا اليوم، لوجدت أن كثيرا منه مطبوع بلغة قبائل الحجاز، وهذا أمر منطقي، فبساطة اللغة وسهولتها وجمالها تأتي كنتاج طبيعي لتلاقي حضارات ذلك الزمان الفكرية واللغوية في أسواق الحجاز القديمة ومنتدياته.. فالحجاز الذي قدّم للعربية شعراء كبارا مثل أمية ابن أبي الصلت وحسّان بن ثابت و(كُثّير عزة) و(جميل بثينة) لم يتوقف عن العطاء منذ ذلك العهد؛ وحتى عصر (بديوي الوقداني)، الذي أبهر طه حسين بحكمته وجمال لغته القريبة جداً من الفصحى، وعذوبة شعره وقوة معانيه، فقال عنه: «لو أن هذا الشاعر البدوي كتب أشعاره بالفصحى، لنسي الناس المتنبي».
* النجاح الكاسح لعمل يصل عمره لأكثر من ستين عاماً؛ يُشجِّع كل العاملين في المجال الثقافي من الموسيقيين وغيرهم من الفنانين للغوص في منجم التراث السعودي العريض، الذي يضم آلاف النفائس من الشعر والموسيقى والملابس والطعام وقصص الخيال الشعبي، وتكرار تجربة الموسيقار الراحل طارق عبدالحكيم؛ الذي قدّم في الستينيات أحد ألوان الخبيتي (يا وارد الما)، وكان لها صدى واسع مازال يتردد حتى اليوم.
* كيس التراث السعودي في الحجاز وكافة أرجاء الوطن، (مليان) - بحسب لفظ الجبرتي- بالكثير من الفنون والآداب والثقافات التي تربط حاضرنا الزاهر بماضينا المجيد، وتحكي تفاصيل قصة تكوين هذا الكيان العظيم، على خلفية الصوت الحجازي الأصيل (صيّاف الحربي) وهو يردد:
سرنا بدرب المجد حتى وصلناه
أحرار ما تفرض علينا الوصاية!!