لم تكنْ لُعبةُ الشطرنجِ تستهوينِي، حتَّى سمِعتُ عنهَا قصَّةً في طفولتِي بمدينةِ الطائفِ، وهِي أنَّ شاهًا هنديًّا في قديمِ الزَّمانِ أرادَ إهداءَ وزيرِه هديَّةً مقابلَ خدماتِهِ المُخلِصةِ، فخيَّرهُ عَن الهديَّةِ التِي يحبُّها، فطلبَ منهُ الوزيرُ أنْ يهديَهُ رُزًّا من خزائنِهِ العامرةِ، وليسَ ذهبًا أو فضَّةً، بشرطِ أنْ يكونَ عددُ حبَّاتِ الرُزِّ محسوبًا بدقَّةٍ، وبحيثُ يكونُ حبَّة واحدة فِي المربَّعِ ١، ضمنَ لوحةِ الشطرنجِ التِي تتكوَّن من ٦٤ مربَّعًا، وأنْ يُضاعَفُ عددُ الحبَّاتِ تدريجيًّا، فتكونُ هناكَ حبَّةُ رُزٍّ واحدة فِي المربَّع ١، وحبَّتانِ في المربَّعِ ٢، و٤ حبَّاتٍ في المربَّع ٣، و٨ حبَّات في المربَّع ٤، و١٦ حبَّة في المربَّع ٥، وهكذَا حتَّى الوصولِ للمربَّع ٦٤!.
ووافقَ الشاهُ علَى الفورِ، ظانًّا أنَّ عددَ حبَّاتِ الرُزِّ المُهداةِ سيكونُ قليلًا، وأنَّه لنْ يستنزفَ الرُزَّ مِن خزائنهِ، ليُفَاجأَ أنَّ الوزيرَ قدْ استولَى برضاهِ علَى كلِّ الرُزِّ الموجودِ في الخزائنِ؛ بسببِ المتواليةِ الحسابيَّةِ الملياريَّةِ والعملاقةِ، بلْ وأنَّ الشاهَ صارَ مدينًا للوزيرِ؛ لأنَّ رُزَّ الخزائنِ لمْ يكفِ للمتواليةِ، وعليهِ شراءُ رُزٍّ مِن المقاطعاتِ الهنديَّةِ الأُخْرَى؛ كَي يفِي بكاملِ هديَّتهِ للوزيرِ، فضلًا عَن شراءِ رُزٍّ آخرَ لشعبِهِ الهنديِّ الذِي لا يستغنِي عَن الرُزِّ منذُ قديمِ الزَّمانِ وحتَّى الآنَ!.
وذكاءُ الوزيرِ أزَّنِي لتعلُّم الشَّطرنجِ التِي فيهَا ٨ قطعِ جنودٍ، و٢ قلعة، و٢ حصان، و٢ فيل، وواحد وزير، وواحد شاه، وكلٌّ يتحرَّكُ بحركةٍ مختلفةٍ، لكنَّ أقواهَا هُو الوزيرُ الذِي يتحرَّكُ كلَّ الحركاتِ باستثناءِ حركةِ الحصانِ، وبنيْتُ إستراتيجيَّة لعبِي علَى تشغيلِ الوزيرِ منذُ بدايةِ اللعبِ ضدَّ خصومِي، ونجحتِ الإستراتيجيَّةِ، وغدوْتُ بطلًا عندَ الأقاربِ والجيرانِ، وفي المدرسةِ والجامعةِ!.
وقبلَ أيَّامٍ تحدَّانِي حفيدِي المُراهِقُ أنْ أفوزَ عليهِ فِي الشطرنجِ، وقبلْتُ التحدِّي بغرورٍ، ثمَّ فاجأنِي بانتهاجهِ لنفسِ إستراتيجيَّتِي، بتشغيلِ الوزيرِ الجسورِ، ومَا هِي إلَّا دقائق حتَّى رفعْتُ العلمَ الأبيضَ مُستسلِمًا لهُ بعدَ أنْ اغتالَ بوزيرِهِ معظمَ قطعِي المسكينةِ!.
وفي التراثِ العربيِّ يوجدُ شعرٌ جميلٌ عَن وزيرِ الشطرنجِ، وقد يُسمَّى فِرْزان ويُثبِتُ أهمِّيتهُ، ومنهَا اخترْتُ أبياتًا للشَّاعرِ الكيوانيِّ يصفُه فيهَا:
والبأْسُ كلّ البأْسِ فِي الفِرْزانِ
إِنَّهُ وزيرُ الشَّاهِ المِعْوَانِ
يَحْمِي وســطَ الرُّقعةِ وأطرافَهَا
ببأْسِهِ مِـن دونِ كلِّ قطعةٍ
مَن صادَهُ تَاهَ بهِ واسـتَبْشَرا
لأنَّ كلَّ الصَّيْدِ فِي جوفِ الفرَا
والحمدُ للهِ الذِي جعلَ هزيمتِي علَى يدِ حفيدِي، ومَا أغْلَى مِن الولدِ إلَّا ولد الولدِ!.