في طفولتِنَا حينَ كُنَّا فِي أزقَّةِ المدينةِ المنيرةِ نلهُو ونلعبُ -وقدْ نؤذِي الآخرِينَ- ابتكرَنَا طريقةً مُذهلةً حتَّى لَا يعرفَ النَّاسُ أسماءَنَا الحقيقيَّةَ، وذلكَ لأسبابٍ أمنيَّةٍ، أو اجتماعيَّةٍ، أو ثأريَّةٍ.
فِي ذلكَ الوقتِ لمْ نكنْ ننادِي بعضنَا إلَّا بأسماءَ مُستعارةٍ، لَا يعرفُهَا إلَّا نحنُ، أمَّا كيفَ نختارُ الأسماءَ فهِي طريقةٌ بسيطةٌ يسيرةٌ.
إِنَّنا نُركِّزُ علَى كلِّ واحدٍ منَّا، ثمَّ نَرَى مَا يتميَّزُ بهِ مِن أقوالٍ أو أفعالٍ، ونشتقُّ منهَا اسمًا يتلاءمُ معهَا، وإليكُم الأمثلة:
1- بكر أبو دمعة: كانَ بكرٌ هذَا صاحبَ قلبٍ حنونٍ، إذَا سمعَ قصَّةً مُحزنةً، أو دُهستْ قطَّةٌ أمامَهُ، دخلَ يبكِي ويمسحُ دموعَهُ بطرفِ كُمِّهِ؛ لأنَّ ثقافةَ حملِ المناديلِ، لمْ تكنْ موجودةً فِي تلكَ المرحلةِ، ومِن دموعِهِ الغزيرةِ اشتققنَا هذَا الاسمَ.
2- سعيد أبو حطبة: كانَ يساعدُ والدَهُ فِي حملِ الحطبِ، مِن أجلِ بيعهِ فِي السوقِ، فأطلقنَا عليهِ هذَا الاسمَ.
3- طه رأس القطار: كانَ طه -غفرَ اللهُ لهُ- يمتازُ برأسٍ غريبِ الحجمِ؛ لأنَّه بارزٌ مِن الأمامِ ومِن الخلفِ، وكأنَّهُ رأسُ قطارٍ، ولَا أدرِي كيفَ أطلقنَا عليهِ هذَا الاسمَ، معَ أنَّنَا لمْ نشاهد القطارَ فِي حياتِنَا.
4- إدريس عدو البشر: كانَ إدريسُ كارهًا لذاتِهِ ولمجتمعِهِ، فمنذُ أنْ يستيقظَ فِي الصباحِ حتَّى ينامَ ليسَ لديهِ مِن الشغلِ إلَّا إيذاءُ البشرِ، لذلكَ أطلقنَا عليهِ عدو البَّشرِ.
5- مختار الكنتي: أمَّا مختارٌ، فهُو ضحيَّةٌ من ضحايَا أفكارِ الزَّمنِ الجميلِ، وجيلِ الطَّيِّبِينَ.. إنَّه يتجاهلُ اللَّحظةَ، بحيثُ يعيشُ في الماضِي، وكلُّ أحاديثِهِ عَن الزَّمنِ الماضِي، لقدْ كُنَّا وكُنَّا، لذلكَ أطلقنَا عليهِ اسم «الكنتي».
6- ياسين قشر السمك: كانَ ياسينُ مِن عائلةٍ أرستقراطيَّةٍ ثريَّةٍ بمفاهيمَ ذلكَ الوقتِ، لذلكَ هُم يأكلُونَ السَّمكَ كلَّ يومِ جمعةٍ، وإذَا شبعَ مِن أكلِ السَّمكِ، أخذَ يحدِّثنَا عَن طريقةِ أُمِّهِ فِي تقشيرِ السَّمكِ. لذلكَ أطلقنَا عليهِ هذَا الاسمَ.
7- غازي أبو ونش: غازي، شابٌّ نبيلٌ ينحدرُ من أُسرةٍ مكافحةٍ، كانَ أبُوه صالحًا مُكافحًا ويمتلكُ سيَّارةَ ونشٍ لسحبِ السيَّاراتِ المريضةِ، وكانَ «غازي» يجلسُ كلَّ مساءٍ علَى ظهرِ الونشِ، لذلكَ التصقَ بهِ هذَا الاسمُ.
8- إسماعيل الشراد: كانَ إسماعيلُ يمتازُ بقلبٍ جبانٍ، وإذَا قامتِ المعاركُ بيننَا وبينَ أشقياءِ الحاراتِ المجاورةِ، كانَ أوَّلَ الهَاربِينَ والمُتولِّينَ يومَ الزَّحفِ، وعندمَا قلنَا لهُ يَا جبانُ لماذَا تخافُ؟ قالَ: يَا أبويه، أولادُ الحارةِ الفلانيَّةِ يضربُونَ بالعصيِّ علَى الرَّأسِ، وهذهِ الضربةُ تُموِّتُ.. لذلكَ خلِّيهم يقولُوا خوَّافًا، ولا يقولُوا اللهُ يرحمُهُ! ولهذَا أشردُ بسرعةٍ، لذلكَ سُمِّي بالشَّرادِ.
9- ياسين سوق الخردة: كانَ ياسينُ يذهبُ معَ أخيهِ الأكبرِ «وسيم»، إلى حراجِ الخردواتِ كلَّ جمعةٍ، وإذَا رجعُوا من السوقِ، أخذَ يقصُّ علينَا ما حدثَ في الحراجِ، مكرِّرًا عبارة «لمَّا كُنَّا فِي سوقِ الخردةِ»، لذلكَ أطلقنَا عليهِ هذَا الاسمَ.
10- برهوم الشبح: كانَ برهوم خفيفَ الظلِّ والرُّوحِ، يأتِي كالنِّسمةِ، ويذهبُ مثلهَا، يهبطُ علينَا فِي الحارةِ دونَ أنْ نشعرَ، ويغادرنَا دونَ أنْ ندركَ، إنَّه كالشَّبحِ الذِي تراهُ ولا تَرَاهُ، لذلكَ أطلقنا عليهَ الشَّبحَ.
11- ماجد كركرة: كانَ الأنسُ والضَّحكُ والفرفشةُ من الغذاءِ الذِي نتناولهُ كلَّ يومٍ، وإذَا كتبنَا قائمةً عَن أهلِ الفكاهةِ والصانعِينَ لهَا ولمحتواهَا، فسنجدُ المقدَّمةَ مِن نصيبِ ماجد، الذِي يكركرُ مِن الضحكِ معَ النكتةِ الطالعةِ والنكتةِ النازلةِ، لذلكَ وهبنَاهُ هذَا الاسمَ.
12- أسعد كنداسة: أسعد، شابٌّ نحيلُ الذَّكاءِ، سمينُ الغباءِ، وقدْ أدركَ أبوهُ ذلكَ، وجعلهُ يدرسُ معنَا فِي الصفِ الخامسِ صباحًا، أمَّا فِي العصرِ فقدْ كانَ يساعدُ والدهُ بإصلاحِ وصيانةِ ولحامِ الكنداساتِ، وكانَ أبوهُ صاحبَ نظرةٍ ثاقبةٍ، حيثُ جعلَ مستقبلَ الابنِ «أسعد» علَى شارعَينِ، شارع الدِّراسةِ إذَا فلحَ فيهَا، وإذَا لمْ يفلحْ فأمامهُ شارعُ صيانةِ الكنداسةِ، ومِن هنَا أطلقنَا عليهِ هذَا الاسمَ.
13- أحمد الشرقي: كانَ هذَا اللقبُ مِن نصيبِ أحمد العرفج، والسَّببُ أنَّنا أتينَا إلى المدينةِ وعمرِي سبعُ سنواتٍ، وكانُوا يطلقُونَ علينَا لقب الشُّروقِ؛ لأنَّنا أتينَا مِن المدنِ المتاخمةِ لشرقِ المدينةِ، وهناكَ قصَّةٌ ظريفةٌ لِي، حولَ هذَا الاسمِ معَ أحدِ الجيران، لَا داعِيَ لذكرِهَا.
حسنًا ماذَا بَقِيَ؟!!
بَقِيَ القولُ: هذهِ صفحةٌ مِن صفحاتِ الطفولةِ التِي لهَا وعليهَا، ولعلِّي فِي المستقبلِ أكملُ بقيَّةَ الصَّفحاتِ، ولا زلتُ أتعجَّبُ كيفَ وصلنَا إلى هذَا الذَّكاءِ الحادِّ الذِي جعلنَا نُغطِّي وجوهنَا بالأسماءِ المستعارةِ.