هناكَ طبقةٌ رقيقةٌ جدًّا داخلَ القلبِ، تتكوَّنُ فِي بدايةِ تكوينِ القلبِ فِي الأجنَّةِ تُسمَّى شِغافُ القلبِ endocardium، فالشَّغفُ القلبيُّ يبدأُ منذُ بدايةِ تكوينِ الانسانِ فِي بطنِ أُمِّه، يعنِي ملازمًا لهُ منذُ النشأةِ بالفطرةِ، والمفروضُ هُو الذِي يحرِّكهُ طِيلةَ الحياةِ، فالإنسانُ عديمُ الشَّغفِ يكونُ عديمَ العطاءِ فِي الحياةِ، بعكسِ مَن يمتلئ قلبُهُ شغفًا، يفيضُ دائمًا عطاءً غيرَ محدودٍ ولا مجذوذٍ، وكلَّما كانَ عندهُ شغفٌ، كانَ تحقيقهُ لِمَا يريدُ حاصلًا، وامرأةُ العزيزِ عندمَا كانَ مرادهَا أنْ تحرزَ شيئًا مِن حبِّ وجذبِ قلبِ سيِّدنَا يوسفَ -عليهِ السَّلامُ- وأنْ تحقَّق استمالتهُ إليهَا شغفهَا حُبًّا، وأصبح قلبهَا منصبًا عليهِ حُبًّا؛ ممَّا جعلهَا تتصرَّفُ بدونِ وعيٍ أَنْ هَمَّتْ بِهِ وَهَّمَ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، ويُقالُ إنَّه بعدَ ذلكَ تزوَّجهَا -عليهِ السَّلامُ- بعدَ أنْ ماتَ زوجهَا.
والشَّغفُ المنطوِي علَى الحُبِّ يرتفعُ إلى العشقِ والهَيَامِ، وبذلكَ يبذلُ كلَّ شيءٍ وكلَّ غالٍ ونفيسٍ لتحقيقِ مَا يحبُّهُ الإنسانُ، وليلَى العامريَّة وقيسُ ابن الملوَّحِ نموذجٌ لذلكَ، والحبُّ واسعُ التطبيقِ فِي الحياةِ وليسَ مقصورًا علَى الحُبِّ المتداولِ بمفهومِ الحُبِّ بينَ الرجلِ والمرأةِ، بلْ يتخطَّاهُ إلى حبِّ أمورِ الحياةِ، ومِن ذلكَ حُبُّ العملِ، وحُبُّ أيِّ شيءٍ فِي الذهنِ يريدُ أنْ يحقِّقهُ ويسعَى لإنجازِهِ الإنسانُ. فالشَّغفُ دينامُو العطاءِ، فإذَا رأيتَ إنسانًا مبدعًا، ومعطاءً، ومنجزًا فاعلمْ أنَّ خلفَ ذلكَ الإبداعِ والعطاءِ والإنجاز شغفًا يسيطرُ علَى عقلهِ وقلبهِ ونفسهِ. فالشَّغفُ سحرٌ لتحقيقِ النَّجاحِ فِي الحياةِ، وهُو مهمٌّ جدًّا لصناعةِ القياداتِ علَى كلِّ المستوياتِ، وليسَ يُؤتاه كلُّ إنسانٍ، فالذِي ليسَ عندهُ شغفٌ لا يحقِّقُ هدفًا، ولا يملكُ رؤيةً، ويسيرُ بدونِ رسالةٍ، ويُصنَّف أنَّه منزوعُ الشَّغفِ أو مغشوشُ الإنجازِ، عايشٌ علَى شغفِ غيرهِ فِي الإنجازِ.
إن الشغف له علاقة كبيرة بالاستقرار النفسي، حيث يملأ خانة في الدماغ تعرف بالفراغ، تجعل من الإنسان مليئاً بالهواجس والوساوس، وعدم الاستقرار الذهني، والشغف يرتبط كثيراً بالتحفيز، حيث يعد أحد مصادر التحفيز الأساسية، وتجد كل مَن حول صاحب الشغف نشيطين ومتنافسين ومميزين؛ لأن احتكاكهم به صنع منهم إيجابيين، بعكسِ منزوعِ أو عديمِ الشَّغفِ فإنَّ مَن حولهُ تمتدُّ إليهم سلبياتُهُ ومواتهُ وضعفُ أدائهِ، وبالتَّالي محصلةُ الناتجِ النهائيِّ للعملِ محبطةٌ، فالشَّغفُ يعنِي أخذَ الأمورِ برغبةٍ وتشوُّقٍ، ومنهُ يحصلُ التجديدُ ويحصدُ منهُ الإنسانُ الجديدَ، ولَا يمكنُ أنْ يكونَ عندَ صاحبِ الشَّغفِ أيُّ فراغٍ، وقدْ وجَّهَ القرآنُ الكريمُ إليهِ بصورةِ الإنتاجِ فِي الحياةِ، فقالَ اللهُ -سبحانَهُ وتعالَى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)، أي توجَّه إلى اللهِ بالعملِ المفيدِ لكَ فِي دنياكَ وآخرتكَ، واجعلْ نصبَ عينكَ أنْ تجعلَ شغفكَ وحبَّكَ للعملِ وملءِ فراغِ وقتكَ خالصًا للهِ؛ لأنَّه هُو الأدعَى بتحقيقِ الجودةِ والمراقبةِ الذاتيةِ، وحسنِ الأداءِ، والمحرَّكِ لمزيدٍ من العطاءِ؛ لأنَّهُ الدينامُو الحقيقيُّ لذلكَ العطاءِ.