سَمِعْتُ تسجيلًا نادرًا للمطربِ المصريِّ الرَّاحلِ محمَّد عبدالوهَّاب -يرحمهُ اللهُ- وهُو يتلُو سورةَ (الضُّحَى) مِن القرآنِ الكريمِ، وكانتْ تلاوةً رائعةً زادتهَا روعةً معانِي آياتِ السورةِ التِي إذَا قرأهَا مُكتئبٌ مُتدبِّرًا إيَّاهَا مُؤمِنًا باللهِ الذِي قالهَا، فلَابُدَّ أنْ تنقشعَ عنهُ نوباتُ الاكتئابِ.
فقطْ، فليتأمَّل المُكتئبُ، ويتخيَّل نفسَهُ المُخاطَبَ في السورةِ مِن قِبلِ اللهِ:
يقولُ تعالَى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى) أي لمْ يتخلَّ عنكَ ويُبْغَضكَ، و(وَلَلْاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) أي أنَّ حياتَكَ فِي الآخرةِ هِي خيرٌ مِن حياتِكَ فِي الدُّنيَا التِي فيهَا همومٌ وتعبٌ ومرضٌ وكدحٌ، و(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) أي أنَّ عطاءَ اللهِ فِي الآخرةِ الدَّائمةِ هُو الأكبرُ معَ مَا يُعطيكَ فِي الدُّنيَا الفانيةِ، حتَّى درجةِ الرضَا الكاملِ، و(ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) أي لَا تنسَ أنَّكَ كُنتَ يتيمًا فآواكَ عندَ مَن يكفلكَ، وكلُّ إنسانٍ يفقدُ أبويهِ يومًا مَا فيكفلهُ غيرهمَا إنْ كانَ صغيرًا، ولوْ فقدهمَا وهُو كبيرٌ فيكفلُ نفسَهُ بنفسِهِ، وأنَّكَ كُنتَ ضالًّا فهداكَ للإسلامِ الذِي هُو أعظمُ نعمةٍ يُنعمهَا اللهُ علَى الإنسانِ، وكيفَ لَا وهُو مفتاحُ دخولِ الجِنانِ؟ وكُنْتَ فقيرًا فأغنَاكَ اللهُ، وهذهِ هِي دورةُ المالِ لكلِّ إنسانٍ قدْ يحتاجهُ أحيانًا ويفيضُ عندَهُ أحايينَ، وهكذَا يستشعرُ المُكتئبُ نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ عليهِ فتسكنُ نفسهُ، ويطمئنُ قلبهُ ويرضَى بمَا قسمَهُ اللهُ لهُ في الحياةِ الدُّنيَا.
من ناحيةٍ أُخْرَى، جلسْتُ أتأمَّلُ هذَا المطربَ الذِي كانَ معَ المطربةِ الرَّاحلةِ أمِّ كلثوم -يرحمهَا اللهُ- قطبيْ الطَّربِ فِي العالمِ العربيِّ، ولقَّبهُ الجمهورُ بموسيقارِ العربِ، واتَّخذهُ مطربُو الجيلِ الذِين أتُوا بعدَهُ مثل فريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ، وغيرهم -يرحمهم الله جميعًا- أستاذًا ومُلْهِمًا، وكانتْ لديه فُوبيَا ركوبِ الطائراتِ، ولَا يُسافرُ إلَّا برًّا، أو بحرًا، ويقولُ: ماذَا أفعلُ لوْ وقفتْ مُحرِّكاتُ الطائرةِ وأنَا مُعلَّقٌ فِي الجوِّ؟.
هذا المُطربُ الكبيرُ نسيهُ معظمُ النَّاسِ إلَّا مَن كانَ كبيرًا فِي السنِّ، وَلَا أعتقدُ أنَّ أجيالنَا الحاليَّةَ تعرفهُ، ودخلتْ أغانيه الرائعةُ بئرَ النُسيانِ، لكنَّ تلاوتهُ القديمةَ لسورةِ الضُّحَى حلَّت محلَّ أغانيهِ المنسيَّةِ، فالقرآنُ الكريمُ هُو الكتابُ الخالدُ والمحفوظُ، وهُو كذلكَ الذِي يُخلِّدُ ذكرَى المرءِ في قلوبِ وعقولِ الأجيالِ التِي تخلفهُ، وليسَ الطربَ أو أيًّا من مظاهرِ الدنيَا الزائلةِ، وحقًّا يَا أمانَ الإنسانِ بتلاوةِ القُرآنِ الكريمِ، إنَّه خيرُ جليسٍ وونيسٍ وشفيعٍ وصديقٍ فِي كلِّ الأماكنِ والأزمانِ.