أُتابعُ الردَّ علَى إنكارِ الأستاذِ فراس الحوَّاس لثوابتِ الإسلامِ، وسأردُّ فِي هذهِ الحلقةِ علَى زعمِهِ بـ«خلوِّ القصصِ القرآنيِّ من المُكوِّنِ المكانيِّ»؛ إذْ رددتُ في الحلقةِ الماضيةِ علَى زعمهِ بـ«خلوِّ القصصِ القرآنيِّ من المكوِّن الزَّمنيِّ».
فممَّا لا شكَّ فيهِ أنَّ توظيفَ المكانِ فِي القصَّةِ مِن الوسائلِ الفنيَّةِ ذاتِ الأعماقِ البعيدةِ، وعندَ تتبعنَا لعنصرِ المكانِ فِي القصصِ القرآنيِّ، كشفنَا أنَّ وجودَ هذَا العنصرِ ينقسمُ إلى نوعَينِ أساسَينِ هُمَا: المكانُ الصَّريحُ، والمكانُ الضِّمنيُّ.
أوَّلًا: المكانُ الصَّريحُ، هُو العلمُ الواردُ في القرآنِ الكريمِ مثل:
1- مكَّة، وردَ ذكرُهَا فِي أكثرِ مِن موضعٍ: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)، المسجدُ الحرامُ: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
2- يثربُ: (وَإِذْ قَالَت طائِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فارْجِعُوا۟- وَيَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِي بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا).
3- الحِجرُ (مدائنُ صالحٍ)، وسُمِّيتْ سورةٌ باسمهَا، هِي موقعٌ أثريٌّ يقعُ فِي إقليمِ الحجازِ فِي شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ، شمالَ غربِ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ، وتحديدًا في محافظةِ العُلا التَّابعةِ لمنطقةِ المدينةِ المنوَّرةِ. يحتلُّ المكانُ موقعًا إستراتيجيًّا علَى الطَّريقِ الذِي يربطُ جنوبَ شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ ببلادِ الرَّافدَينِ وبلادِ الشَّامِ ومصرَ، كمَا أنَّ للمكانِ شهرتَهُ التاريخيَّةَ التِي استمدَّهَا مِن موقعِهِ علَى طريقِ التِّجارةِ القديمِ الذِي يربطُ جنوبَ شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ والشامَ، والحِجرُ اسمُ ديارِ ثمود بوادِي القُرَى بينَ المدينةِ المنوَّرةِ وتبوك. وردَ ذكرُ الحِجرِ فِي القرآنِ علَى أنَّها موطنُ قومِ ثمود، الذِينَ استجابُوا لدعوةِ نبيِّ اللهِ صالحٍ -عليهِ السَّلامُ- ثمَّ ارتدُّوا عَن دِينهِم وعقرُوا النَّاقَةَ التِي أرسلَها اللهُ لهُم آيةً، فأهلكَهُم بالصَّيحةِ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ).
4- مصرُ فِي قصةِ يوسفَ: (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ)، ووردتْ أسماءُ أماكنَ كثيرةٍ فِي السَّردِ القصصيِّ لقصَّةِ سيدنَا يوسفَ -عليهِ السَّلام- مثل: غياباتِ الجُبِّ، السِّجن، القرية، أهلِ القرَى.
5- إرمُ ذات العمادِ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)، وقدْ أوردَ ياقوتُ الحموي في معجمِ البلدانِ مادتَي «أحقاف، وإرم»، حيثُ ذُكِرَ أنَّ إرمَ ذاتَ العمادِ كانتْ بينَ حضرموت وصنعاءَ فِي اليمنِ، كمَا ذهبَ أغلبُ المفسِّرِينَ إلى أنَّ الأحقافَ المذكورةَ فِي القرآنِ الكريمِ موجودةٌ فِي اليمنِ، وقدْ أدرجَ ياقوتُ الحموي موقعَهَا فِي كتابِهِ بأنَّه فِي وادٍ بينَ عُمان وأرضِ مهرةِ.
6- قصَّةُ أصحابِ الكهفِ فِي قولِهِ تعالَى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)، والرَّقيمُ اختلفَ فيهِ المفسرُونَ، فمنهُم مَن قالَ هُو الجبلُ الذِي فيهِ الكهفُ، ومنهُم مَن قالَ هُو الوادِي الذِي فيهِ الكهفُ، وقالَ آخرُونَ هُو لوحٌ كتبَ فيهِ أصحابُ الكهفِ، ووضعَ عندَ بابِ الكهفِ. وأكَّدَ اللهُ -جلَّ شأنُه- أنَّها قصَّةٌ واقعيَّةٌ فِي قولهِ تعالَى: (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى).. والعنصرُ الزَّمنيُّ واضحٌ فِي هذهِ القصَّة، كقولِهِ تعالَى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ).. وقولِهِ تعالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، هُنَا التاريخُ واضحٌ، فقدْ مكثُوا (309) سنوات.
ثانيًا: الأماكنُ الضِّمنيَّةُ، فهِي تلكَ الأسماءُ التِي تُستنبطُ مِن الكلامِ، ومنِ الأحداثِ والوقائعِ.. عَلَى سبيلِ المثالِ عندمَا نقرأُ قولَهُ تعالَى علَى لسانِ إبراهيمَ -عليهِ السَّلامُ-: (وأَعْتَزِلُكمْ وما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وأَدْعُوا رَبِّي)، فنحنُ لَا نشاهدُ هنَا ذكرًا صريحًا لاسمِ مكانٍ معيَّنٍ، لكنَّ سياق هذه الآية تضمن مكاناً له وجوده الخارجي، دون أن يكون هناك تصريح بهذا المكان، وتحديد موقعه الجغرافي، وما يرشدنا لهذا المكان الضمني هو فعل الاعتزال، فنبي الله إبراهيم -عليه السلام- قرر ترك أمكنة قومه المشركين، واختار مكاناً بعيداً عنهم وعن أفعالهم، تتوفر فيه إمكانية العبادة وتوحيد الله -سبحانه وتعالى-. فالأحداث، والزمان، وشخصيات القصة وسياقها، كلها قد توحي بوجود الأمكنة، وتسوق لنا دلالاتها وأدوارها الوظيفية التي استخدمت من أجلها.
وهكذَا نجدُ أنَّ قراءةَ الأستاذِ فراس الحوَّاس للقصصِ القرآنيِّ يخالفُ الحقيقةَ تمامًا، وَهَا هِي الآياتُ القرآنيَّةُ تدحضُ مزاعمَهُ، وَلِي عودةٌ للحوارِ معَهُ عبرَ قراءتِي لكتابهِ: «القصصُ القرآنيُّ ومتوازياتُهُ التوراتيَّةُ».
وأخيرًا أتساءَلُ: هلْ مَن يحملُ هذَا الفكرَ يُؤتمنُ علَى تكوينِ الفكرِ العربيِّ؟!.
تكوين الفكر العربي من خلال فكر «الحوَّاس».. إلى ماذا يرمي؟! (3)
تاريخ النشر: 25 يوليو 2024 00:13 KSA
A A