«الفَقْدُ» الأبديُّ بالانتقالِ مِن الحياةِ الدُّنيَا إلَى الحياةِ الآخرةِ، سمَّاهُ اللهُ -سبحانَهُ وتعالَى- فِي القرآنِ الكريمِ «مُصِيبَةَ المَوتِ»، وهُو فَقْدُ جزءٍ محسوسٍ مِن حياةِ الإنسانِ لَا يملكُ إلَّا أنْ يستسلمَ لهُ الإنسانُ طوعًا أو كرهًا، ويتفاوتُ حجمُ المصيبةِ علَى النَّفسِ وفقًا للمفقودِ، ولكنَّ أقسَاهَا وأشدَّهَا وَجَعًا وألمًا هُو موتُ الأبناءِ والبناتِ، ويتبعهُ فقدُ الآباءِ والأُمَّهاتِ، وَلَا شكَّ أنَّ كلَّ عزيزٍ مفقودٍ مُوجع فَقْدهُ، وتبعًا لذلكَ لابُدَّ أنْ تدمعَ العينُ، ويحزنَ القلبُ، وهُو شيءٌ فطريٌّ، ورسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قالَ بصريحِ العبارةِ عندَ فَقْدِهِ لابنِهِ إبراهيمَ: «إنَّ القلبَ ليحزَنُ وإنَّ العينَ لتدمَعُ، وإِنَّا لِفراقِكَ يَا إبراهيمُ لمحزونُونَ».
إنَّ البكاءَ حاجةٌ نفسيَّةٌ وفسيولوجيَّةٌ، وهُو مِن أسبابِ الصحَّةِ والعافيةِ. ونزولُ الدَّمعِ يريحُ القلبَ، ويؤدِّي إلى الاستقرارِ النفسيِّ، ووضَّحتُ ذلكَ فِي مقالٍ بعنوانِ «البكاء والاستقرار النَّفسي»، فالبكاءُ لغةٌ عالميَّةٌ لَا تختلفُ باختلافِ اللِّسانِ، أو الثقافةِ، أو البيئةِ؛ لأنَّها ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالنَّفسِ البشريَّةِ، وكلُّ الأنفسِ كمَا الأجسامِ هِي مِن خلقِ اللهِ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا).
فالبكاء، ودموع البكاء تخلص الإنسان الموجع من الشوائب الضارة المتعلقة بالنفس، وتعتبر إحدى الوسائل التي تكسب النفس الاطمئنان والراحة النفسية عند الحزن، واحتباس الدموع، وعدم التعبير عما في الداخل بالبكاء يؤدي إلى التراكم الضار بالنفس، وعند الفقد يستوي الرجال والنساء في الحزن على من يفقدون، ومن الخطأ أن يقولَ البعضُ إنَّ الرِّجالَ مَا ينبغِي لهُم أنْ يبكُوا؛ لأنَّ البكاءَ للنِّساءِ فقطْ! وهذَا غيرُ صحيحٍ، وليسَ صحيًا، بلْ هُو ضارٌّ، وممَّا لَا تَحسنُ عقباهُ علَى النَّفسِ، واللهُ -سبحانَهُ وتعالَى- يقولُ: (هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ)، والرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: «إِنَّ العَينَ لتدَمَع»، إلَّا أنَّ بعضَ النِّساءِ قدْ يغلبهنَّ البكاءُ، وتأخذهنَّ العاطفةُ فيذهبنَ إلى الجزعِ، ورفعِ الصوتِ، والنياحةِ، وهُو الممنوعُ شرعًا، ونوَّه الدِّينُ إلى تحريمهِ، أمَّا أنْ تبكيَ وتحزنَ فمِن حقِّهَا.
لفتَ نظرِي فِي تشييعِ جنازةٍ، قبلَ فترةٍ إلى بقيعِ الغرقدِ فِي المدينةِ المنوَّرةِ، فتاةٌ تتبعُ جنازةَ أُمِّهَا بنظراتِهَا الأخيرةِ، تودِّعهَا وهِي محمولةٌ علَى الأكتافِ، وتُنادِي «أُمِّي.. أُمِّي.. أُمِّي»، عزَّ عليهَا الفَقْدُ وهِي تبكِي حرقةً علَى فراقِ أُمِّهَا، وهناكَ مَن نهرَهَا وزجرَهَا، فعجَّبتُ لتصرُّفِهِ معهَا؛ لأنَّهُ خلافُ الشَّرعِ، حيثُ مسموحٌ بالبكاءِ والحزنِ علَى الميِّتِ دونَ شقِّ الجيوبِ، أو النِّياحةِ، وتُعذرُ مثلُ هذهِ المُوجَعة فِي أُمِّها فِي البكاءِ علَى فَقْدهَا لَا إراديًّا، فالفَقدُ موتُ، والموتُ مصيبةٌ (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) والمصيبةُ تواجَهُ بالصَّبرِ والاحتسابِ، مغسولًا بدموعِ العينِ والبكاءِ، والأفضلُ قولُ (إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، ونتذكَّرُ قولَهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إِذَا أُصيبَ أحدكُم بمُصيبةٍ فليذكرْ مصيبَتهُ بِي فإِنَّهَا أعظمُ المصائبِ».