مِن مؤلَّفاتِ الباحثِ السُّوريِّ؛ فراس أحمد الحوَّاس، كتابُ: «القصصُ القرآنيُّ ومتوازياتُهُ التَّوراتيَّةُ».. تحدَّث فيهِ عَن تاريخِ التَّوراةِ العبرانيَّةِ، وتاريخِ المُصحفِ الشَّريفِ، ثمَّ عقدَ مقارناتٍ بينَ مَا وردَ فِي القرآنِ الكريمِ، والتَّوراةِ لقصصِ الأنبياءِ، كمَا عقدَ مقارناتٍ بينَ مَا وردَ فِي التَّوراةِ والقرآنِ الكريمِ عَن قصصِ أصحابِ الكهفِ، وحرقِ أورشليم، ويأجوج ومأجوج، وقصَّةِ الخليقةِ، وإبليس الملاكِ -كمَّا سمَّاه الحوَّاس في كتابِهِ- السَّاقطِ، وسقوطِ الإنسانِ السَّاقطِ، والطوفانِ الكبيرِ، والقيامةِ والتَّصوراتِ الأخرويَّةِ، واكتفَى فِي مقارنتِهِ بإيرادِ نصٍّ مِن التَّوراةِ، والهاجادا أحيانًا، ومَا يقابلهَا -وفقَ رؤيتِهِ- مِن القرآنِ الكريمِ.
وقدْ ذكرَ الحوَّاسُ فِي مقدمتِهِ «أنَّ المادَّةَ التَّوراتيَّةَ التِي اعتمدتهَا للمقارنةِ لَا تقتصرُ علَى مَا وردَ فِي الأسفارِ الرسميَّةِ التِي بقيتْ علَى هامشِ التَّوراةِ، ولكنَّهَا أدَّت معَ ذلكَ دورًا هامًّا فِي تشكيلِ الصيغةِ الأخيرةِ لليهوديَّةِ بدءًا مِن القرنِ الثَّانِي الميلاديِّ، وهِي اليهوديَّةُ التلموديَّةُ».
وهنَا أتوقَّفُ لأقولَ: إنَّ الأستاذَ الحوَّاسَ اعتمدَ التلمودَ ولاسيَّما «الهاجادا» المكوِّنَ الثَّالثَ للتلمودِ، وهِي قصصُ وأساطيرُ الأوَّلِينَ، منسوبةٌ للأنبياءِ، حيثُ تمَّ صبغُ سيرتِهم وحياتِهم الحقيقيَّةِ بصبغةٍ خياليَّةٍ فِي مواقفَ لمْ تحدثْ؛ لزعمِ اليهودِ أنَّ رسولَ اللهِ أخذَ مِن الهاجادا معظمَ أساطيرِهِ عَن قصصِ الأنبياءِ فِي القرآنِ والأحاديثِ، وذلكَ ليثبتَ عدمَ واقعيَّةِ القصصِ القرآنيِّ، كمَا زعمَ فِي برنامجِ «السُّؤال الصَّعب»، وليثبتَ أنَّ الرسولَ محمَّدًا مؤسِّس الإسلامِ أتَي بهِ، وممَّا نقل إليهِ من شرائعَ سابقةٍ.
وممَّا استوقفنِي فِي هذَا الكتابِ: أوَّلًا: حرصُ المؤلِّفِ علَى التَّشكيكِ فِي صحَّةِ القرآنِ الكريمِ برواياتٍ تشكيكيَّةٍ دونَ تفنيدِهَا، وبيانِ عدمِ صحَّتِها، فقدْ تجرَّأَ علَى القولِ بعدمِ صحَّةِ جميعِ الأحاديثِ النبويَّةِ، وأنَّهَا موضوعةٌ، داعيًا إلى نسفِهَا، ولكنَّهُ لمْ يجرؤْ علَى إعلانِ أنَّ القرآنَ الكريمَ ليسَ كمَا نزلَ علَى سيِّدِنَا محمَّدٍ، فجمعَ كمًّا مِن الإسرائيليَّاتِ والرِّواياتِ الموضوعةِ للطَّعنِ فِي صحَّتهِ ليتساوَى معَ التَّوراةِ التِي طالهَا التَّحريفُ، فممَّا حرصَ عليهِ الحوَّاسُ:
- التَّشكيكُ فِي صحَّةِ مُصحفِ أُمِّ المؤمنِينَ حفصةَ لأنَّه جُمِعَ فِي عهدِ أبِي بكرٍ، ونُسختْ منهُ عدَّة نُسخٍ فِي عهدِ عثمانَ، فيقولُ: «ولكنَّ شكوكًا تحومُ حولَ أصلِ مُصحفِ حفصةَ؛ لأنَّ البعضَ يقولُ: إنَّه كانَ نسخةً عَن مُصحفٍ سابقٍ، وإنَّهَا تدخَّلتْ أثناءَ نسخِهِ فِي ترجيحِ بعضِ القراءاتِ الخلافيَّةِ، فعَن سالم بن عبدالله أنَّ حفصةَ أمرتْ أحدَ الكُتَّابِ أنْ ينسخَ لهَا مُصحفًا، وقالتْ لهُ إذَا بلغتَ هذهِ الآيةَ (السُّورة 2، الآية 238) فاكتبْ (حافظُوا علَى الصَّلواتِ والصَّلاةِ الوسطَى «وصلاةِ العصرِ» وقومُوا للهِ قانتِينَ)، «الحوَّاس، ص 28 نقلًا عن السجستانيِّ: كتاب المصاحفِ».. وصلاةُ العصرِ فِي الآيةِ 238 مِن سورةِ البقرةِ غيرُ موجودةٍ فِي المصحفِ العثمانيِّ الموحَّدِ، حيثُ وردَ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلهِ قَانِتِينَ).
يلاحظ أن مصدر الأستاذ الحواس في نقل هذه الشكوك هو «كتاب المصاحف» لعبدالله بن أبي داود السجستاني، الذي قال عنه والده أبو داود صاحب كتاب «سنن أبي داود»: (ابني عبدالله هذا كذاب).. فكيف يعتمد الأستاذ الحواس رواية عبدالله عن مصحف أم المؤمنين حفصة، وقد قال عنه والده «كذاب»؟.
- ويُروَى أنَّ عمرَ أتَى بآيةِ الرَّجمِ إلى زيدِ بن ثابت فلمْ يكتبهَا؛ لأنَّ عمرَ كانَ وحدَهُ، ولكنَّ عمرَ بقِيَ مُصرًّا علَى موقفِهِ، ويُروَى عنهُ أنَّه قالَ غاضبًا: «لولَا يقولُ النَّاسُ زادَ عمرُ فِي كتابِ اللهِ لكتبتُ آيةَ الرَّجمِ بيدِي، وآيةُ الرَّجمِ تقولُ وفقَ روايةِ أُبَي بن كعب: «إذَا زنَى الشَّيخُ والشَّيخةُ فارجمُوهُمَا البتَّةَ نكَالًا مِن اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ».. وهذَا مِن الإسرائيليَّاتِ.
السُّؤالُ الذِي يطرحُ نفسَهُ هُنَا: لماذَا لمْ يحقِّقِ الأستاذُ الحوَّاسُ فِي هذهِ الروايةِ التِي لَا أشكُّ أنَّهُ يعلمُ أنَّهَا مِن الإسرائيليَّاتِ؟ فاليهودُ عندمَا لمْ يستطيعُوا الدخولَ إلى الشريعةِ الإسلاميَّةِ عَن طريقِ كتابِ اللهِ، لجأوا إلى مَا يُسمَّى بالنَّاسخِ والمنسوخِ فِي القرآنِ، وادَّعُوا أنَّ آيةَ الرَّجمِ نُسختْ تلاوةً، وبقِي حكمُهَا، ونسبُوا إلى عمرَ بن الخطَّابِ روايةً لَا يصدِّقُها عقلٌ، ووضعُوا أحاديثَ الرَّجمِ، والتِي تتناقضُ معَ آيةِ الجلدِ، فأقدمُ الأحاديثِ عَن الرَّجمِ فِي موطَّأ الإمامِ مالك روايةُ محمد بن الحسن الشيباني، تحتَ عنوانِ «باب الرَّجمِ»، ورقمِ (693)، وجاءَ فيهِ الحديثُ التَّالي: أخبرنَا مالكٌ، حدَّثنَا يحيى بن سعيد، أنَّه سمعَ سعيدَ بن المسيب يقولُ: لمَّا صدرَ عمرُ بن الخطاب مِن منَى أناخَ بالأبطحِ... فخطبَ النَّاسَ، فقالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ: قدْ سننتُ لكُم السننَ وفرضتُ لكُم الفرائضَ... لولَا أنْ يقولَ النَّاسُ زادَ عمرُ بن الخطاب فِي كتابِ اللهِ لكتبتهَا: «الشَّيخُ والشَّيخةُ إذَا زَنَيَا فارْجُمُوهُمَا البتَّةَ، فإنَّا قدْ قرَأنَاهَا، قالَ سعيد: فمَا انسلخَ ذو الحجَّةِ حتَّى قُتلَ عمر».
نحنُ نعرفُ أنَّ سعيدَ بن المسيب وُلِدَ فِي السنةِ الثانيةِ مِن خلافةِ عمر بن الخطاب، وهذَا يعنِي أنَّه كانَ فِي الثامنةِ مِن عمرِهِ عندَ استشهادِ عمر، فهلْ تُقبلُ روايةُ طفلٍ أقلِّ مِن الثامنةِ؟ فهذهِ الروايةُ مِن الإسرائيليَّاتِ، وأدلَّةُ ذلكَ»
- تناقضُهَا معَ الآيةِ (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، أي لَا يكذبهُ شيءٌ ممَّا أنزلَ اللهُ مِن قبل وَلا ينزلُ مِن بعدِهِ يبطلهُ وينسخهُ.
- عدمُ وجودِ حديثٍ نبويٍّ عَن آيةِ الرَّجمِ، وكلُّ الرِِّواياتِ عنهَا لمْ يقلهَا الرَّسولُ الكريمُ.
- آيةُ الرَّجمِ المزعومةُ لا تتَّفقُ معَ الأسلوبِ القرآنيِّ، فكلمةُ «البتَّة» ليستْ من أسلوبِ القرآنِ، وكلمةُ «الشَّيخِ» فِي القرآنِ لَا تدلُّ علَى الرجلِ الثَّيبِ، وإنَّمَا تدلُّ علَى الرجلِ الكبيرِ الطَّاعنِ بالسِّنِّ، وفِي العربيَّةِ يُقالُ للمرأةِ المُسنَّة «عجوزٌ» وليسَ «شيخةً»، (قَالَتْ يَٰوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِى شَيْخًا).
وهكذَا نجدُ عدمَ صحَّةِ مَا نُسبِ لسيِّدِنَا عمر عَن مَا تُسمَّى بآيةِ الرَّجمِ، كمَا تأكَّدَ لدينَا أنَّهَا ليستْ مِن القرآنِ، بلْ مِن الإسرائيليَّاتِ، وحاولَ اليهودُ دسَّهَا فِي القرآنِ.
للحديثِ صِلَةٌ...