حدَّثنا مصباح بن موسى، قال: رأيتُ في سوقٍ يومًا رجلًا قصير القامة، مستدير الوجه، جاحظ العينين، مبعثر اللحية، منتفخ الكرش، يتساوى عرضه بطوله، مهترأ الثوب، لا يحسن لبس العمامة، ولا تسوية العقال، يغطي (قلحًا) بائنًا حول رقبته، وفي خلال أصابعه.
ثم غاب عنِّي، فالتقيته مرَّة ثانية، فشككتُ فيه، لولا تلك العلامة التي كنتُ أتفرَّسها في ملامحه، فسلَّمتُ عليه، وبنفسي عرَّفته، فسألني: مَن أنتَ؟، ومَا بالكَ كالظلِّ تلاحقني؟، بالفم تكاد تبتلعني؟؛ فلم أجبه، فجرَّني جرًّا إلى داره، برضى منِّي ورغبة، فلمَّا استوينا على (تكوة) عمر به مطرحه، وبالحديث تجرَّأت عليه، فألحَّ عليَّ سؤال أحسستُ أنَّه لم يبارح مكانه وبحلقي غدا كالغصَّة.
فقلتُ له: كيف تغيَّر بك الحالُ، وتقلَّب بك المقامُ، فأصبحتَ نظيف الثياب، معمور البيان، ممهور اللسان؟، فقال: كنتُ على تلك الحال التي رأيتني، حتَّى جاءني أبى بعد قطيعة، فرأى حالي وما بي، وبعد حديث طويل معه، جمع ما بين ونَّة وحنَّة، وعبرة ودمعة، وبصوت مرتفع، قال لي: «يا ابن التَّافه النَّافخ، اعرف أنَّك ضعيفٌ بنفسك، واطٍ بقدراتِكَ، سافلٌ بملكاتِكَ، فكنْ قويًّا بالكذب والمَلَق، معتصمًا بالنِّفاق والتملُّق، مستقويًا بحب الخشوم، وتقبيل الرؤوس، والخضوع بالركوع والسجود.. فخرج من غرفتي وهو مغاضبٌ، بعد أنْ رمى في وجهي ظرفًا محشوًّا بالنقود».
ثم أكمل؛ وهو يقول: «درَّجت كل كلمة قال بها في ذهني، وأخذتُ في نفسي عهدًا ممهورًا بالقَسم أنْ أبدِّل حالي، وأعيد ترتيب أفكاري، فخرجتُ إلى السوق فاشتريتُ من الملابس أحسنها، ومن العطور أنفسها، ومن الأحذية أغلاها، ومررتُ بحلَّاق فهذَّب لحيتي، وقضم شاربي، وعدت إلى داري وظهري محمَّل بما يغيِّر حالي، حتى رأيتني على أحسن حال، وأنا مع ذلك قلح في داخلي، حقود في سري».
وأنا على تلك الحال من التعديل والتقويم، والتزيين والتزويق، فرأى خلطائي تبدُّل أحوالي، وتحسُّن مظهري، وتجمُّل هيئتي، فأدخلوني في بعض حديثهم، وبلاط اجتماعهم، فقلتُ في نفسي آن لك الآوان يا ابن أبي ملقة أنْ تأخذ بوصيَّة أبيك، وتقيمها بين الجموع لعلَّها تثمر وتينع.. ففعلتُ، فلم يمر سوى عدة اجتماعات حتى أوصلوني إلى صاحب الشأن والقرار، ومرد البت والاعتماد، بعد أنْ مرَّ على أذنيه صداي بما يثلج صدره، ويشرح قلبه، فلمَّا دخلتُ عليه، سلَّمتُ، وبصوت مرتفع حيَّيتُ، وبثقة تقدَّمتُ، فقبَّلتُ رأسه ثلاثًا ثلاثًا، ونكَّستُ رأسي إجلالًا وعرفانًا، وقلتُ كلامًا قد حفظته وتمرَّنت عليه؛ تمجيدًا وتعظيمًا، وزدت -بما فتح الله عليَّ- ثناء على مشيته، ونبرات صوته، وتمائل يديه، وهز أكتافه، حتى رأيت تهلل وجهه، وابتهاج أساريره، وأبصرتُ في ملامحه علامات الرِّضا والقبول. وأنا على ذلك المنوال في كل مناسبة من التمجيد بالكذب، والنفاق، والتملُّق، حتى وجدتني قد أدمنتُ عليها واحدة واحدة، فلم أبرح يومًا دون الاستزادة منها، وحفظ قوالبها، وترداد عباراتها حتى استويت إلى ما أطمح إليه..
قال مصباح بن موسى، وأنا عليه منصتٌ مستمتعٌ، حتى سمعتُ طرقًا قويًّا أيقظ نومتي، وكسر مبارحة أحلامي، فصحوتُ مفزوعًا، واهتززتُ مذعورًا، فنفضتُ فراشي نفضًا، وعزمتُ على (دعكه) بالماء سبعًا، وبالتُّراب فركتُه فركًا.