مِن أصعبِ اللحظاتِ التِي يمكنُ للأبِ والأُمِّ أنْ يعيشَاهَا، تلكَ اللحظةُ المحوريَّةُ التِي يتخرَّجُ فيهَا ولدهُمَا فِي الثَّانويَّةِ العامَّةِ، ويبدآنِ بالبحثِ معهُ عَن جامعةٍ، أو معهدٍ، أو كليَّةٍ، تلكَ اللحظةُ الحاسمةُ التِي ستحدِّدُ مدَى إشراقةِ أو سوداويَّةِ مستقبلِهِ، تلكَ اللحظةُ الغامضةُ والمحيِّرةُ، فلَا الأجيالُ الحاضرةُ لديهَا أمنيةٌ مستقبليَّةٌ، ولَا حصادُ المراحلِ الدِّراسيَّة -بدونِ اختبارِ القدراتِ- مُجديةٌ، ولَا سوقُ العملِ -رغمَ كلِّ مَا تنفقُهُ الحكومةُ عليهِ- يُّعدُّ بيئةَ عملٍ جاذبةً ومحفِّزةً!!
بعدَ أنْ كانتْ أحلامُ طلابِ الصفوفِ الأوَّليَّةِ، بالسَّنواتِ الماضيةِ، تعانقُ عنانَ السَّماءِ: «حِلمي أطْلَعُ دكتورًا، مهندسًا، طيَّارًا»، أصبحتْ -اليومَ- أحلامُ الطلابِ مغيَّبةً، حتَّى وهُم يتخرَّجُونَ فِي المرحلةِ الثانويَّةِ، بعدَ أنْ وَأدتْ أحلامَهُم البريئةَ: اختباراتُ قياسٍ وقدراتٍ، مناهجُ دراسةٍ غيرُ مُجديةٍ، برامجُ توظيفٍ ضبابيَّةٌ!!
لقدْ أصبحتِ الحاجةُ مُلِحَّةً: لإلغاءِ اختباراتِ قياسٍ وقدراتٍ، التِي أشبهُ مَا تكونُ بجاثومٍ اعتادَ الرَّبضَ سنويَّا علَى أحلامِ طلابِنَا المستقبليَّةِ حتَّى شلَّهَا عَن الحركةِ، بلْ إنَّه أصابَ البعضَ منهَا بالهلوسةِ، ورؤيةِ أشياءَ غيرِ موجودةٍ، بعدَ تفاقمِ خوفِهِم الشَّديد مِن عدمِ قبولِهِم بالجامعةِ، وتضاؤلِ فرصِهِم بالوظائفِ الرَّاقيةِ!!
لقدْ أصبحتِ الحاجةُ مُلِحَّةً: لإضافةِ مادةٍ عمليَّةٍ ضمنَ المناهجِ الدراسيَّةِ، اسمهَا «حلمُ الوظيفةِ المستقبليَّة»، لتُنشِّطَ آفاقَ الطلابِ نحوَ التخصُّصاتِ الفنيَّةِ والمهنيَّةِ، معَ دعمِهَا فِي كلِّ فصلٍ دراسيٍّ بمعاملَ تدريبٍ مكثَّفةٍ وإلزاميَّةٍ، يكونُ لهَا النَّصيبُ الأكبرُ مِن الدَّرجاتِ التِي تؤثِّرُ إيجابًا علَى رفعِ معدَّلِ الطالبِ وصقلِ موهبتِهِ.
لقدْ أصبحتِ الحاجةُ مُلِحَّةً: لفرضِ رقابةٍ صارمةٍ علَى برامجِ التَّوطينِ والسَّعودةِ، التِي أراهَا أشبهَ مَا تكونُ بـ»منيو» مطاعمِ الوجباتِ السَّريعةِ، حينَ تُظهرُ بنشراتِهَا الوظائفَ المُشهِّيةَ، وعندَ وضعِهَا علَى طاولةِ سوقِ العملِ تكتشفُ أنَّهَا مشبعةٌ بدهونِ العمالةِ الوافدةِ، وذاتُ إشعاراتٍ تسريحيَّةٍ عاليةٍ؛ مَا يُعرِّضُ (طالبَهَا) لخطرِ الإصابةِ بالفصلِ التَّعسفيِّ، والبطالةِ المُزمنةِ!!
باعتقادِي، أنَّ غالبيةَ وظائفِ القطاعِ الخاصِّ الحاليَّةَ، لا تتناسبُ رواتبُهَا المتواضعةُ معَ مؤهلاتِ شبابِنَا الجامعيَّةِ، وأنَّهُ كانَ يكفِي للقبولِ فيهَا إتمامُ المرحلةِ الثَّانويَّةِ، معَ دورةٍ تدريبيَّةٍ. وقدْ أصبحتِ الحاجةُ مُلِحَّةً: لمعالجةِ معوِّقاتِ أحلامِ الطفولةِ البريئةِ، وترميمِ سوقِ العملِ مِن خلالِ إحلالِ الكفاءاتِ الوطنيَّةِ، ومنحهَا رواتبَ وبدلاتٍ مجزيةً، وإلَّا فإنَّهُ سيظلُّ مِن أصعبِ اللَّحظاتِ التِي يمكنُ للأبِ والأُمِ أنْ يعيشَاهَا، تلكَ اللحظةُ المصيريَّةُ التِي يتخرَّجُ فيهَا ولدُهُما فِي الجامعةِ، ويصبحُ أقصَى طموحِهِ؛ (حِلمي أطلعُ موظَّفًا)!!