إنَّ المسؤوليَّةَ المجتمعيَّةَ هِي نظريَّةٌ أخلاقيَّةٌ تقترحُ أنَّ أيَّ كيانٍ، سواءٌ كانَ منظَّمةً أو فردًا، يقعُ علَى عاتقهِ العملُ لمصلحةِ المجتمعِ ككلٍّ؛ إنَّها أمرٌ يتعيَّنُ علَى المنظَّماتِ والأفرادِ الالتزامُ بهِ؛ للحفاظِ علَى التَّوازنِ مَا بينَ الاقتصادِ والنُّظمِ البيئيَّةِ.
فالإسلامُ ينظرُ إلى المالِ علَى أنَّهُ (وسيلةٌ) لَا (غايةَ)، وسيلةٌ يسعدُ بهَا الإنسانُ نفسهُ والآخرُونَ، ويوظِّفهَا لتحقيقِ مرضاةِ اللهِ بقضاءِ مصالحهِ ومصالحِ الآخرِينَ، ولذلكَ جعلَ الإسلامُ المالَ ثمنًا لا سلعةً، وشرعَ التجارةَ بالمالِ لَا فيهِ، فالمالُ قيمةٌ تنشأُ عَن عملٍ، وتقابلُ بسلعةٍ، ولذلكَ حرَّمَ اللهُ الرِّبَا؛ لأنَّ المالَ فيهِ يلدُ المالَ، فيصبحُ حينئذٍ غايةً لَا وسيلةً، ويصبحُ ثمنًا وسلعةً فِي وقتٍ واحدٍ.
وبهذهِ الحكمةِ الربانيَّةِ يتحوَّلُ المالُ مِن شقاءٍ للمجتمعاتِ إلى سعادةٍ لهَا، وتنحلُّ عقدةُ الاحتكارِ والطبقيَّةِ المقيتةِ، وتتحوَّلُ العلاقةُ بينَ الغنيِّ والفقيرِ مِن شحناءَ وبغضاءَ، إلى رحمةٍ وتعاونٍ وتعاضدٍ وتكافلٍ، يبسطُ فيهَا الغنيُّ يديه للفقيرِ، ويعملُ فيها الفقيرُ بما يحقِّقُ مصلحةَ الغنيِّ، فلَا يستغنِي أحدهمَا عَن الآخرِ، ولَا يكونُ لأحدهِمَا منَّةً علَى أخيهِ. وفِي ظلِّ هذهِ الفلسفةِ الإسلاميَّةِ تكونُ (المسؤوليَّةُ المجتمعيَّةُ) واقعًا قديمًا فِي المجتمعِ الإسلاميِّ، وإنْ كانتْ مصطلحًا حادثًا، وهُو واقعٌ تشهدُ لهُ النصوصُ، وتثبتهُ الوقائعُ.
إنَّ أمرَ القرآنِ الكريمِ بالتَّعاونِ علَى البرِّ والتَّقوَى هُو أمرٌ بالمسؤوليَّةِ المجتمعيَّةِ، وحثَّ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- علَى قضاءِ حوائجِ النَّاسِ هُو حثٌّ علَى المسؤوليَّةِ المجتمعيَّةِ، والأوقافِ الإسلاميَّةِ المتنوِّعةِ شكلًا وهدفًا هِي صورةٌ تطبيقيَّةٌ مشرقةٌ للمسؤوليَّةِ المجتمعيَّةِ فِي المجتمعِ المسلمِ.
لقدْ تحوَّلتِ المسؤوليَّةُ المجتمعيَّةُ اليومَ مِن مجرَّد سلوكٍ إيجابيٍّ يسلكهُ الأفرادُ إلى واجبٍ وطنيٍّ تقومُ بهِ المؤسساتُ، وباتَ علَى المؤسساتِ التجاريَّةِ أنْ تردَّ شيئًا من أيادِي الوطنِ عليها عبرَ مبادراتٍ ومشروعاتٍ تنتفعُ بهَا البلادُ والعبادُ.
إنَّ القيام بهذا الواجب على أحسن وجه، يقتضي أنْ تكون هناك بنية تحتية قوية من الدراسات النظرية والتطبيقية، التي تعزِّز القناعات، وترشِّد الخطوات، وترسم للراغبين أفضل السبل وأنفعها، لا سيَّما مع اتِّساع إدراك الشركات لضرورة هذا المفهوم، ومسارعتها إلى تأسيس إدارات خاصة به.
وأخيرًا يمكنُ تفعيلُ المسؤوليَّةِ المجتمعيَّةِ للجامعاتِ مِن خلالِ تطويرِ المناهجِ التعليميَّةِ، وطرقِ التدريسِ، ونشرِ المعرفةِ، وتعزيزِ خطواتِ البحثِ، وبالتَّالِي تعزيزُ جودةِ حياةِ الفردِ والمجتمعِ والارتقاءِ بهمَا نحوَ الأفضلِ.