جمهوريَّةُ سنغافورة، دولةٌ صغيرةٌ، تقعُ فِي جنوبِ شرقِ آسيَا، عندَ الطَّرفِ الجنوبيِّ مِن شبهِ جزيرةِ الملايُو، معدَّلُ الأُميَّةِ فيهَا يُقدَّرُ بنسبةٍ أقل مِن (1%)، ولهَا نظامُ تعليمٍ مدرسيٍّ يُعدُّ مِن أبسطِ وأكفأِ الأنظمةِ التَّعليميَّةِ علَى مستوَى العالمِ.
لنتخيلَّ إلَى أيِّ درجةٍ كانتْ هذهِ الدولةُ فِي فترةِ الستينيَّاتِ مِن القرنِ الميلاديِّ الماضِي، كانتْ تعيشُ حياةً قاسيةً جدًّا؛ فقرًا، ومرضًا، وفسادًا، وجريمةً؛ لدرجةِ أنَّ الجميعَ فِي سنغافورة ظنَّ فِي تلكَ الفترةِ: (أنَّ الإصلاحَ مستحيلٌ فِي بلدِهِم).
يقولُ بانِي نهضةِ سنغافورة الحديثةِ الرئيسُ «لي كوان»؛ نظرتُ إلى المعلِّمِينَ، كانُوا فِي بُؤسٍ وازدراءٍ، ومنحتُهُم أعلَى الأجورِ وقلتُ لهُم:
أنَا أبنِي لكُم أجهزةَ الدولةِ، وأنتُم تبنُونَ لِي الإنسانَ السنغافوريَّ، فأصبحنَا فِي مقدَّمةِ الدولِ فِي شتَّى المجالاتِ، ومِن أقوَى اقتصاديَّاتِ العالمِ.
يقولُ الرئيسُ «لي كوان»: أنَا لمْ أقمْ بمعجزةٍ، أنَا فقطْ قمتُ بواجبِي نحوَ وطنِي، فخصَّصتُ مواردَ الدولةِ للتَّعليمِ، وغيَّرتُ مكانةَ المعلِّمِينَ مِن طبقةٍ بائسةٍ فقيرةٍ، إلَى أرقَى طبقةٍ فِي سنغافورة، فالمعلِّمُ هُو مَن صنعَ المعجزةَ السنغافوريَّةَ الحاليَّةَ، هُو مَن أنتجَ جيلًا يحبُّ العِلمَ، والأخلاقَ، بعدَ أنْ كُنَّا شعبًا يشتمُ بعضَهُ بعضًا فِي الشَّوارعِ.
حاليًّا رواتبُ المعلِّمِينَ فِي سنغافورة سخيَّةٌ، وليسَ عليهِم أنْ يتحمَّلُوا وطأةَ السياساتِ الاقتصاديَّةِ القاتلةِ للحكومةِ، يتمُّ منحُهُم مكانةً أكثرَ شرفًا فِي المجتمعِ السنغافوريِّ مِن أيِّ مسؤولٍ حكوميِّ آخرَ.
مِن النادرِ العثورُ علَى أيِّ خطأٍ فِي المدارسِ السنغافوريَّةِ، فالمرافقُ مجهزةٌ بأفضلِ التجهيزاتِ، ونسبةُ الطلابِ إلى المدرسِينَ هِي (15: 1) فِي المرحلةِ الابتدائيَّة، و(11: 1) في المرحلةِ الثَّانويَّةِ، أمَّا معدلُ التسرُّبِ للطُّلابِ فهُو لَا يكادُ يُذكرُ، ونظامُ القبولِ صارمٌ للغايةِ.
وسيلةُ التدريسِ هِي اللُّغةُ الإنجليزيَّةً فقطْ، ويُعدُّ «التَّعلُّم المبهِج»، وتَعليم «الإحساسِ بالقوميَّةِ» لدَى الأطفالِ، وكذلكَ أسلوب «تعلُّم أقل لتعلُّم المزيدِ»، مِن السِّماتِ المهمَّةِ لنظامِ التَّعليمِ فِي سنغافورة، لذلكَ أظهرتِ العديدُ مِن الدِّراساتِ أنَّ الطُّلابَ السنغافوريِّينَ أذكَى وأفضلُ أداءً فِي جميعِ أنحاءِ العالمِ، ويسجِّلُونَ باستمرارٍ درجاتٍ عاليةً في تصنيفاتِ (OECD PISA).
في كتابهِ بعنوانِ «قصَّةِ سنغافورة»، يذكرُ الرئيسُ «لي كوان»، كيفَ تحوَّلتْ بلادُهُ سنغافورة مِن دولةٍ فقيرةٍ مُعدمةٍ، إلى نموذجٍ دوليٍّ يُشارُ إليهِ بالبَنانِ، ويذكرُ المعلِّمِينَ دائمًا بالإطراءِ والإكبارِ.
أرسلتُ وفدًا في عامِ 1965م، إلى مصرَ -والكلامُ للرئيسِ السنغافوريِّ- وخاطبتُ الرئيسَ المصريَّ وقتهَا «جمال عبدالناصر» بحاجتِنَا للخبرةِ المصريَّةِ فِي التَّعليمِ، كانَ دخلُ الفردِ السنغافوريِّ (400) دولارٍ فِي السنةِ، فنهضتْ بلادُنَا بالتَّعليمِ، واحتلَّتِ المركزَ الثَّالثَ عالميًّا فِي دخلِ الفردِ السنويِّ؛ حيثُ يصلُ حاليًّا إلَى حوالى (65) ألفَ دولارٍ.
غدتْ سنغافورة -الآنَ- رائدةً فِي التقنيةِ المتقدِّمةِ فِي جنوبِ شرقِ آسيَا، ومركزًا تجاريًّا مهمًّا، ولاعبًا رئيسًا فِي اقتصادِ منطقةِ جنوبِ شرقِ آسيَا ومَا وراءَ تخومِهَا.
يقولُ الرئيسُ «لي كوان»: (مِن حُسنِ حظِّنَا أنَّ سنغافورةَ حينَ كانتْ تحتَ الاستعمارِ البريطانيِّ، كانَ لديهَا معاهدُ مرموقةٌ لتدريبِ وتأهيلِ المعلِّمِينَ).