لقدْ تفشَّتْ فِي الآونةِ الأخيرةِ، ظاهرةُ (العزبةِ) التِي يتجمَّعُ فيهَا شلَّةٌ مِن الرِّجالِ الاربعينيِّينَ والخمسينيِّينَ، بشقَّةٍ، أو شاليهٍ، أو استراحةٍ مستأجرةٍ بالقطيَّة، والواضحُ مِن مقاطعِهَا العديدةِ، أنَّهُم يستوطنُونَ هذهِ الأماكنَ الترفيهيَّةَ، وأنَّهُم لَا يكادُونَ يبرحُونَها إلَّا للضرورةِ القُصوَى، أو لقضاءِ حاجةٍ مصيريَّةٍ، والواضحُ أيضًا، أنَّ هيئةَ وملامحَ أفرادِ هذهِ (الشِّللِ الونيسةِ) تعكسُ مدَى كرمِهِم وطيبتِهِم الزَّائدة، بعكسِ مَا تروِّجُ لهُ عائلاتُهُم مِن بخلٍ ونكدٍ وعصبيَّةٍ!!
لقدْ تضاعفَ خوفُنَا فِي الآونةِ الأخيرةِ، مِن عزوفِ الشَّبابِ عَن الزَّواجِ، إلى نفورِ الشِّيبانِ عَن الحياةِ الزَّوجيَّةِ، ولجوئِهِم فرادَى وجماعاتٍ إلَى ملاجئِ العزوبيَّةِ، متظاهرِينَ باحترافِهِم للطَّبخِ، أو لعبِ البلوتِ، وهُم فِي حقيقةِ الأمرِ مجرَّد هواةٍ، جارتْ عليهِم المشكلاتُ الأُسريَّةُ، فقرَّرُوا الهربَ مِن زنِّ الحريمِ ومِن تحمُّلِ المسؤوليَّةِ!!
مِن صورِ العزوبيَّةِ المتفشِّيةِ: يظهرُ ذلكَ الطَّباخُ الخمسينيُّ كلَّ ليلةٍ، وهُو يجلسُ أمامَ قدرِ الطَّبخِ ليصنعَ الأكلَ المتنوِّعَ (مرقوق، كبيسة لحم يحبُّها قلبكَ، مقلوبة، مقلقل صاج مفلفل، مع زيادة التبهيرة)، فيمَا تترقَّبُ بقيَّةُ الشلَّةِ المفترسةِ بأطرافِ الجلسةِ، مكتفيةً بتوزيعِ الابتسامةِ وتحسسِ الكرشةِ، حتَّى يفرغَ القدرُ فتنقضُ بمخالبِهَا وأنيابِهَا لتنهشَ الوليمةَ!! مِن صورِ العزوبيَّةِ المتفشِّية: يظهرُ ذلكَ البليتُ الأربعينيُّ مغترًّا، وهُو يكملُ الرَّابعَ لأصحابِهِ، ومعَ أنَّهم اتَّفقُوا مسبقًا علَى تصويرِ وترويجِ لعبةِ فريدةٍ، تعزِّز سمعةَ مَن وضعَ لنفسهِ (لقب أكبر من حجمهِ)، وتزيدُ مِن نسبِ المشاهدةِ، إلَّا أنَّهم مع هذَا كلِّه، غالبًا مَا يقعُونَ بخطأٍ فادحٍ يثبتُ بأنَّ كلَّ مَن بالجلسةِ عليميَّة!!
مِن صورِ العزوبيَّةِ المتفشِّيةِ: يظهرُ ذلكَ المتوحِّدُ الثلاثينيُّ، وهُو يستقلُّ سيارتَهُ المجهَّزةَ بكلِّ أدواتِ الطَّبخِ والرَّيِّ والشبَّة (العزبة)، ليتكئَ ببطنِ وادٍ، أو سفحِ جبلٍ، أو جوفِ عبَّارةٍ، ويجهِّز وجبةَ (نفرٍ) لنفسِهِ، والتِي أظنُّهُ لوْ شرَاهَا جاهزةً، مَا كلَّفتهُ ربعَ الوقتِ والقيمةِ، ولأبعدتهُ عَن همومِ الوحشةِ والأمراضِ النفسيَّةِ وقرصةِ الحشراتِ السَّامَّةِ!!
مِن صورِ العزوبيَّة المتفشِّية: لا يظهرُ ذلكَ الرجلُ البيتوتيُّ، لَا بعزبةِ شقةٍ ولا شاليهٍ ولَا استراحةٍ، لا بتربيعةٍ ولا بحدةٍ، لا بظهرِ الوادِي ولا ببطنِهِ، وتظنُّه يتوسَّط عائلتَهُ السعيدةَ، وهُو في الحقيقةِ، منسدحٌ بعزلتِهِ المختارةِ (غرفةِ النَّومِ) بعدَ أنْ أحكمَ قفلَ البابِ، وراحَ يقلِّبُ قنواتِ شاهد، ونتفلكس، مستمتعًا ببرامجَ الطبخِ والأفلامِ الرومانسيَّةِ!!
نعمْ، لقدْ تفشَّت فِي الآونةِ الأخيرةِ، ظاهرةُ (العزبةِ)، التِي يلجأُ إليهَا الرِّجالُ بمختلفِ الأعمارِ؛ هربًا من جحيمِ المشكلاتِ الأُسريَّةِ، بعدَ أنْ استحالتِ الحياةُ الزَّوجيَّةُ مؤبدًا معَ الأشغالِ الشَّاقةِ، بعدَ أنْ أصبحتِ العزبُ المتفشِّيةُ -مِن كثرةِ متابعِيهَا- تدرُّ أرباحًا طائلةً، لدرجةِ أنَّكَ قدْ تسمعُ بعدَ فترةٍ، نشوبَ مشكلاتٍ عدَّة حولَ سرقةِ حقوقِ الملكيَّةِ الفلاويَّةِ، أو لوقُو براند العزوبيَّةِ، وقدْ تقرأُ وأنتَ تتجوَّلُ بأحدِ الأزقَّةِ أو المواقعِ الإلكترونيَّةِ، يافطةً تحذيريَّةً كُتبَ عليهَا (ليسَ لعزبتِنَا فرعٌ آخرُ)!!