سأتوقفُ في هذهِ الحلقةِ عندَ الطوفانِ فِي الروايتَيْنِ التوراتيَّةِ والقرآنيَّةِ، وسأبدأُ بالروايةِ التوراتيَّةِ، ففِي الإصحاحاتِ «6 و7 و8» من سفرِ التكوينِ مخصَّصةٌ لروايةِ الطوفانِ، ولكنَّهَا تتضمَّنُ روايتَينِ منفصلتَينِ فِي مقاطعَ متداخلةٍ كلٍّ فِي الآخرِ؛ ممَّا يجعلهَا تتناقضُ معَ بعضِها بعضًا تناقضًا صارخًا، حيثُ يحاولُ اليهودُ تعليلَ هذَا التناقضِ؛ بسببِ اختلافِ مصدريهِمَا، أيّ المصدرِ اليهوديِّ، والمصدرِ الكهنوتيِّ، والروايةُ فِي شمولِهَا هِي كمَا يلِي: «ولمَّا عمَّ الفسادُ البشرَ أرادَ اللهُ تعالَى تدميرَهُم، فحذَّر نوحًا وأَمرَهُ بناءَ السَّفينةِ التِي سيدخلُ بهَا وزوجتهُ وأولادهُ الثَّلاثةُ بزوجاتِهِم الثَّلاث، وكائناتٌ أُخْرَى حيَّة».
وحسبَ الروايةِ التوراتيَّةِ تبيَّنَ أنَّ الطوفانَ عمَّ كلَّ الجنسِ البشريِّ، وكلَّ الكائناتِ الحيَّة التِي خلقهَا اللهُ تعالَى قدْ فُنيتْ (موريس بوكاي).. وعندئذٍ يتساءلُ: هلْ مِن المعقولِ أنَّ البشريَّةَ قدْ أعادتْ تكوينَ نفسِهَا ابتداءً مِن أولادِ نوحٍ وزوجاتِهِم فِي هذَا الزَّمنِ القليلِ، ويقرِّرُ بناءً علَى هذهِ الملحوظةِ البسيطةِ عدمَ معقوليَّةِ هذَا النصِّ.
أمَّا الملحوظةُ الثانيةُ فتتَّضحُ فِي ضوءِ المعارفِ الحديثةِ التِي تثبتُ استحالةَ صحَّةِ روايةِ الطوفانِ الواردةِ فِي التوراةِ: وتوضيحَ ذلكَ أنَّ الطوفانَ حسبَ تقديرِ هذهِ الروايةِ يكونُ قدْ وقعَ فِي القرنِ الـ21، أو الـ22 قبلَ الميلادِ، أيّ فِي العصرِ الذِي كانتْ ظهرتْ قبلهُ فِي نقاطٍ مختلفةٍ مِن الأرضِ حضاراتٌ انتقلتْ أطلالهَا للأجيالِ التاليةِ، وهُو مَا تؤكدهُ المعارفُ التاريخيةُ الحديثةُ، ففِي مصرَ مثلًا يقابلُ التاريخُ (2100 قبلَ الميلادِ) الفترةَ الوسطَى الأُولَى قبلَ الأُسرةِ الحادية عشرة، وفِي بابلَ أسرة أور الثَّالثة.
وعلَى ذلكَ يتَّضحُ أنَّه لمْ يحدثْ انقطاعٌ فِي هذهِ الحضاراتِ، وبالتَّالِي لمْ تفنَ البشريَّةُ كلُّهَا كمَا تقولُ التوراةُ، فالنُّصوصُ التوراتيَّةُ التِي وصلتنَا لا تعبِّرُ عَن الحقيقةِ؛ ممَّا يؤكِّدُ تعرُّضهَا إلى تحريفٍ مِن البشرِ، (موريس بوكاي).
علَى حينِ تتحدَّثُ التوراةُ عَن طُوفَانٍ عالميٍّ لعقابِ كلِّ البشريَّةِ الكافرةِ، يشيرُ القرآنُ علَى العكسِ إلى عقوباتٍ عديدةٍ نزلتْ علَى جماعاتٍ محدودةٍ جدًّا تشيرُ إلى ذلكَ الآياتُ مِن 35 إلى 39 من سورةِ الفُرقَان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا، فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا وَقَومَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَ وأصحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَينَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَكُلًّا ضَرَبَنَا لَهُ الأمثالَ وكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا).
أمَّا سورةُ الأعرافِ، فالآياتُ مِن 59 إلى 93 تقدِّمُ العقوباتِ التِي نزلتْ علَى شعبِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وسدوم ومدينَ كلٍّ علَى حِدَةٍ.
وعلَى ذلكَ فالقرآنُ يقدِّمُ كارثةَ الطوفانِ باعتبارِهَا عقابًا نزلَ بشكلٍ خاصٍّ علَى شعبِ نوحٍ: وهذَا يشكِّلُ الفرقَ الأساسَ الأوَّلَ بينَ الرَّوايتَينِ، أمَّا الفرقُ الجوهريُّ الثَّانِي فهُو أنَّ القرآنَ، علَى عكسِ التوراةِ، لَا يحدِّدُ زمنَ الطوفانِ، ولَا يُعطِي أيَّةَ إشارةٍ علَى مدَّةِ الكارثةِ نفسِهِا، (موريس بوكاي).
وفِي نهايةِ الأمرِ فالاختلافاتُ بينَ رواياتِ القرآنِ والتوراةِ موجودةٌ وهامَّةٌ، ويتَّضحُ -تمامَ الوضوحِ- عدمُ إمكانيَّةِ اتِّفاقِ روايةِ التوراةِ فِي تقديمِهَا للطوفانِ بزمنِهِ ومدَّتِهِ معَ مكتسباتِ المعرفةِ الحديثةِ، وعلَى العكسِ مِن ذلكَ فإنَّ روايةَ القرآنِ تتَّضحُ خاليةً مِن أيِّ عنصرٍ مثيرٍ للنَّقدِ الموضوعيِّ، (المرجع السَّابق).
وممَّا يثيرُ الدَّهشةَ قولُ الأستاذِ الحوَّاس تحتَ عنوانِ: (بينَ الروايةِ القرآنيَّةِ والروايةِ التوراتيَّةِ): «تحتوِي الروايةُ القرآنيَّةُ علَى العناصرِ الرئيسةِ للقصَّةِ التوراتيَّةِ، وتسيرُ علَى التَّوازِي معهَا، ولكنْ باستخدامِ الأسلوبِ المكثَّفِ الموجزِ الذِي يقفزُ فوقَ التفاصيلِ.. أيُّ مغالطةٍ هذهِ؟ كيفَ الروايةُ القرآنيَّةُ للطوفانِ تحتوِي علَى العناصرِ الرئيسةِ للروايةِ التوراتيَّةِ، والروايةُ التوراتيَّةُ قائمةٌ علَى أنَّ الطوفانَ عمَّ البشريَّةَ بأكملِهَا، بينمَا الروايةُ القرآنيَّةُ قائمةٌ علَى أنَّ الطوفانَ كانَ عقابًا نزلَ بشكلٍ خاصٍّ علَى قومِ نوحٍ: وهذَا يشكِّلُ الفرقَ الأساسَ الأوَّلَ بينَ الروايتَينِ، كمَا قالَ الأستاذُ موريس بوكاي، وهناكَ فرقٌ جوهريٌّ أنَّ القرآنَ، علَى عكسِ التوراةِ، لا يحدِّدُ زمنَ الطوفانِ، ولَا يُعطِي أيَّةَ إشارةٍ علَى مدَّةِ الكارثةِ نفسِهِا.
إنَّه قالَ قولَهُ هذَا، وهُو يعلمُ مدَى مخالفتِهِ للحقيقةِ ليؤكَّد فرضيَّتهُ أنَّ القصصَ القرآنيَّ نُقلَ إلى الرَّسولِ الكريمِ مِن الشَّرائعِ السَّابقةِ، ولمْ يجدْ مَا يؤكِّد فرضيَّتهُ هذهِ، فدسَّ مغالطتَهُ هذهِ.
إنَّ مقارنةَ عديدٍ مِن رواياتِ التوراةِ معَ رواياتِ نفسِ الموضوعاتِ فِي القرآنِ؛ تبرزُ الفروقَ الأساسيَّةَ بينَ دعاوَى التوراةِ غيرِ المقبولةِ علميًّا وتاريخيًّا، وبينَ مقولاتِ القرآنِ التِي تتوافقُ تمامًا معَ المعطياتِ الحديثةِ، ولقدْ رأينَا دليلًا علَى هذَا مِن خلالِ روايتَي الخلقِ والطوفانِ.
ونجد «الحواس» صدر في عنوان كتابه عبارة «أساطير الأولين»، ليؤكد أن القصص القرآني ابتداءً من خلق الكون وخلق البشرية من آدم، وأن الحياة بعد الموت والجنة والنار ما هي إلا أساطير الأولين.. ويستدل بسفر الجامعة بعدم عودة الحياة بعد الموت، أما الثواب والعقاب ففي هذه الدنيا لا في الآخرة.
وفي النهايةِ، لا أستطيعُ تجاوزَ إطلاقِ الأستاذِ الحوَّاسِ صفةَ الملاكِ علَى إبليسَ، وذلكَ استنادًا إلَى مَا جاءَ فِي الإصحاحِ 78 مِن المزمورِ: 49- 50، وكذلكَ نجدهُ كرَّر أكثرَ مِن مرَّةٍ كلمةَ (الرَّبِ) التِي يقولُها المسيحيُّونَ بدلًا مِن كلمةِ (اللهِ تعالَى) باعتبارِهِ مسلمًا.
قراءة لمقارنات «الحوَّاس».. بين القصص القرآني ومتوازياته التوراتية (3)
تاريخ النشر: 04 سبتمبر 2024 23:46 KSA
A A