تُعتبرُ خدمةُ ضيوفِ الرَّحمنِ مِن أعظمِ الأعمالِ وأكثرِهَا مثابةً وفضلًا عندَ اللهِ، وقدْ مرَّتْ بمراحلَ متنوِّعةٍ، ففِي بدايتِهَا كانتْ مرحلةً إيمانيَّةً مطلقةً لتعليمِ الحجَّاجِ الأمورَ الشرعيَّةِ فِيِ الحجِّ، ولمْ تلبثْ أنْ تطوَّرتْ حتَّى وصلتْ فِي مرحلتِهَا الرَّابعةِ إلَى مَا يُسمَّى بـ(حريَّةِ السؤالِ)؛ بقرارِ مجلسِ الوزراءِ رقم ١٥٥، وتاريخِ ٢٧/ ٣ /١٣٨٥، حيثُ أُلغِي نظامُ التقاريرِ، والذِي ظهرتْ مساوئهُ مِن تحديدِ أقاليمَ معينةٍ لمطوِّفٍ خاصٍّ؛ ممَّا حرمَ الكثيرَ مِن المطوِّفِينَ مِن خدمةِ ضيوفِ الرَّحمنِ، وأحدثَ ضررًا اقتصاديًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا لهُم.
ولكنْ بفتحِ (حريَّةِ السؤالِ)، أصبحَ الحاجُّ حرًّا فِي الذهابِ إلى المطوِّفِ الذِي يرغبُ، فالهدفُ عدمُ الاتكاليَّةِ؛ بسببِ ضمانِ الحجَّاجِ لتكونَ المنافسةُ مصدرًا لتحسينِ الخدماتِ. ولكنْ بظهورِ هذهِ المرحلةِ، دخلتْ آفةٌ جديدةٌ، وهِي ظهورُ طائفةِ السماسرةِ الذِينَ كانُوا يحصلُونَ علَى مبالغَ باهظةٍ لإحضارِ الحجَّاجِ للمطوِّفِينَ، وكانُوا -فِي الغالبِ- مِن طائفةِ المقيمِينَ، وربَّمَا فِي بعضِ الأحيانِ تتجاوزُ المبالغُ قيمةَ الخدمةِ المقدَّمةِ للحاجِّ، وربَّمَا يخرجُ المطوُّفُ مِن الموسمِ خالِيَ الوفاضِ، مقابلَ مَا أنفقَ علَى السمسرةِ، والظهورِ بأنَّهُ مِن كبارِ المطوِّفِينَ، والحصولِ علَى عشراتِ الآلافِ مِن الحجَّاجِ لخدمتِهِم، بعدَ أنْ كانَ العددُ لَا يتجاوزُ المئاتِ!! ثمَّ تحوَّلت عمليَّاتُ السمسرةِ مِن أفرادٍ إلى جماعاتٍ، ثمَّ إلى مكاتبَ سياحيَّةٍ، حيثُ أصبحتْ بطريقةٍ منظَّمةٍ، وعقدِ اتفاقيَّاتٍ بعضهَا صريحة، وبعضهَا مِن تحتِ الطاولةِ.
ثمَّ ظهرتْ مرحلةُ مؤسساتِ الطوافةِ عامَ ١٤٠٢هـ، والتِي قُسِّم فيهَا الحجَّاجُ علَى المؤسساتِ، طبقًا للأقاليمِ الجغرافيَّةِ، والتِي أُلغيتْ عام ١٤٤٠هـ، بظهورِ نظامِ مقدِّمِي الخدماتِ، وإعادةِ هيكلةِ مؤسَّساتِ أربابِ الطوائفِ، وتحويلِهَا إلى شركاتٍ؛ بناءً علَى المرسومِ الملكيِّ رقم م/١١١ وتاريخ ١٧/ ٩ /١٤٤٠هـ. وبالرغمِ مِن الحدِّ مِن أعدادِ الحجَّاجِ؛ بسببِ جائحةِ كورونَا للعامَين ١٤٤١- ١٤٤٢هـ إلَّا أنَّه بعامِ ١٤٤٣هـ أصبحَ نظامُ عملِ الشركاتِ نافذًا، ودخلتْ شركاتٌ جديدةٌ حتَّى أصبحَ عددهَا مؤخَّرًا أكثرَ مِن 35 شركةً، وللحاجِّ أو لِمَن ينوبُ عنهُ مِن بعثاتِ الحجِّ حريَّةُ اختيارِ الشركةِ، وخرجَ مئاتُ الآلافِ مِن الحجَّاجِ مِن شركاتٍ مخصَّصةٍ لهُم سابقًا إلَى شركاتٍ متنوِّعةٍ.
وإنْ كانَ النظامُ يهدفُ إلَى توسيعِ قاعدةِ المشاركةِ مِن أبناءِ الوطنِ فِي الخدماتِ، لتحسينِ جودةِ الخدماتِ، إلَّا أنَّه وخلالَ هذهِ السنواتِ ظهرتْ بعضُ المشكلاتِ، ولعلَّ مِن أهمِّهَا: نشاطَ طائفةِ السماسرةِ! وقدْ ظهرَ مؤخَّرًا استطلاعٌ مِن وزارةِ الحجِّ لمقدِّمي الخدماتِ لتنظيمِ أعمالِ شؤونِ الحجَّاجِ، وفقَ ضوابطَ محدَّدةٍ.. ولكنْ معَ ذلكَ تبقَى الكثيرُ مِن المشكلاتِ والأسئلةِ التِي تفرضُ نفسَهَا علَى وزارةِ الحجِّ بصفتِهَا مشرفةً علَى الخدماتِ.. مثلًا:
- هلْ تابعتْ وزارةُ الحجِّ الخططَ الإستراتيجيَّةَ فِي الشركاتِ ومدَى توافقِهَا معَ الخطَّةِ الإستراتيجيَّةِ للوزارةِ؟، وكذلكَ مدَى توافقِهَا معَ الخططِ التشغيليَّةِ؟، حتَّى لَا يحدثُ تعارضٌ فِي العملِ.
- لماذَا بعضُ الشركاتِ ليسَ لهَا مهامُّ وظيفيَّةٌ تقدِّمهَا للموظَّفِ الموسميِّ؟، فالعملُ يكونُ باجتهاداتِهِ أو خبراتِهِ، وهذَا حتمًا فيهِ الكثيرُ مِن الخللِ؟!.
- هلْ تابعتِ الوزارةُ معاييرَ توظيفِ المواردِ البشريَّةِ؟، هلْ هِي طبقًا للكفاءةِ أمْ غلبَ عليهَا تعيينُ الأقاربِ والأصدقاءِ، والذِي يُعتبرُ فسادًا إداريًّا؟!.
- هلْ هناكَ تقييمٌ لأداءِ الشركاتِ، والذِي ظهرَ أو تسرَّبَ العامَ الماضِي، ثمَّ لمْ يظهرْ هذَا العام؟!.
- هلْ قوَّمتِ الوزارةُ أداءَ الشركاتِ الجديدةِ التِي لمْ يكنْ لهَا أيُّ خبراتٍ سابقةٍ؟، وهلْ وجدَ الحاجُّ -بعدَ قياسِ الرِّضَا- الخدماتِ المطلوبةِ؟!.
- هلْ تطبِّقُ الوزارةُ مدَى التزامِ الشركاتِ بالحوكمةِ الداخليَّةِ والخارجيَّةِ، ومنهَا الإفصاحُ عَن مكافآتِ مجالسِ الإداراتِ حسبَ (المادةِ 20) مِن اللائحةِ التنفيذيَّةِ للشركاتِ (الفقرة 4)، والتِي تتطلَّبُ الإفصاحَ والسياساتِ المتعلَّقة بالمكافآتِ وكيفيَّة تحديدِهَا؟!.
وأمَّا بالنسبةِ لوزارةِ التجارةِ، والتِي تشرفُ علَى الشركاتِ مِن الناحيةِ الاقتصاديَّة:
- لماذا حتى الآن لم تصدر بعض الشركات قوائمها المالية للأعوام 2022م - 2023م، بالرغم من وضع غرامة مالية على مجالس الإدارات التي تؤخر إظهار قوائمها عن شهر ٦ ميلادي؟، بل إن بعض الشركات لم تنشر قوائمها المالية على الموقع الإلكتروني لعدة سنوات، ولم تعمل جمعيتها العمومية الأولى، وبعضها لم يصرف مستحقات الأسهم للمساهمين لمدة عامين؟!.
- هلْ بمراجعةِ القوائمِ الماليَّةِ مِن المراجعِ الخارجيِّ للشركاتِ يتمُّ اكتشافُ الخللِ، مثل إخفاءِ الالتزاماتِ والمصروفاتِ، أو التلاعبِ بقيمةِ الأصولِ؟!، فمثلًا قيمةُ أصلٍ تبلغُ ٣٠٠ مليونِ ريالٍ، ويُحسبُ منهُ فقطْ قيمةُ الأرضِ بقيمةِ ٦٩ مليونًا!! مَا هُو تصرُّفُ الوزارةِ تجاهَ تلكَ الممارساتِ؟!.
- أخيرًا، هلْ قوَّمتْ وزارةُ الحجِّ ذاتهَا مثلًا فِي طريقةِ توزيعِ الأراضِي لعرفات ومِنَى للشركاتِ؟، أمْ لازالتْ طبقًا للتَّوزيعِ الإقليميِّ السَّابقِ؟!، وهلْ قوَّمتِ الوزارةُ موضوعَ التنافسيَّةِ فِي الخدماتِ؛ والسلبيَّاتِ التِي طفتْ علَى السطحِ مؤخَّرًا واكتشافهَا، ووضعِ نظامٍ يُراعِي التنوُّعَ الثقافيَّ والمذهبيَّ والعقديَّ للحجَّاجِ.. للقضاءِ علَى بعضِ الإشكالاتِ فِي الحجِّ؟!.