دائمًا مَا أتأمَّلُ عبارةَ الفيلسوفِ اليونانيِّ «هيراقليطس» حيثُ نُقلَ عنهُ أنَّ: «الشَّيءَ الوحيدَ الثَّابتَ فِي الحياةِ هُو التَّغييرُ المستمرُ»، وقدْ يتذكَّرُ كثيرُونَ كتابَ سبنسر جونسون: (مَن الذِي حرَّكَ قطعةَ الجُبنِ الخاصَّةَ بِي؟!) حيثُ قدَّم حكايةً مهمَّةً عَن التَّغييرِ الذِي لا ينتظرُ أحدًا؛ تمامًا كالزَّمنِ الذِي يتقدَّمُ للأمامِ، ولا يعبأُ بأحدٍ، حتَّى مَن يستخدمُ البوتكسَ لتجميدِ الزَّمنِ علَى وجهِهِ كمَا يُظنُّ، إلَّا مَا سوفَ يتركُ علامتَهُ عليه/ــا.
وهذَا الكتابُ تناولَ أنماطَ التَّعاملِ معَ التَّغييرِ خلالَ أربعةِ أبطالٍ تمثَّلُوا فِي فأرَينِ «سنيف»، و«سكوري»، وبشريِّين بحجمِهِمَا هُمَا «هيم» و«هاو»، وعرضَ تجربتهُم داخلَ المتاهةِ التِي ترمزُ إلَى الحياةِ، وركضِهِم فيهَا بحثًا عَن الجُبنِ الذِي يرمزُ إلَى المالِ، أو الوظيفةِ، أو السَّعادةِ، وغيرِهَا؛ ممَّا فِي قلوبِ البشرِ، إلَّا أنَّ إدراكَ هذهِ الاحتياجاتِ تحتاجُ إلَى استثمارِ المهاراتِ لتحقيقِهَا، تمامًا كمَا فعلَ الفأرَانِ حينَ استخدمَا حاسَّةَ الشَّمِّ؛ كَي يدلَّهُمَا علَى الجُبنِ داخلَ المتاهةِ، فيمَا هناكَ مَن أهدرَ وقتَهُ فِي البحثِ دونَ خطَّةٍ، دونَ أهدافٍ منتظرًا أنْ يحالَفَه الحظُّ، وهُو مَا حصلَ معَ «هيم، وهاو» حينَ وجدَا محطَّةَ جُبنٍ ممتلئةً بهِ؛ أنساهُمَا ذلكَ، أي محاولةٍ فِي البحثِ عَن بديلٍ.
لقدْ ركَّزَ المؤلِّفُ علَى أنماطِ التَّعاملِ معَ التَّغييرِ الحاصلِ لَا محالةَ، مهمَا بدتِ الأمورُ مستقرَّةً ومُسلَّمًا بهَا، سواءٌ علَى مستوَى حياةِ الفردِ، أو الأجهزةِ الحكوميَّةِ، أو الشركاتِ الخاصَّةِ، وحتَّى علَى مستوَى الدولِ والعالمِ، فإنَّ التَّغييرَ قدْ يأتِي معَ أيِّ ظرفٍ كانَ؛ ويجبرُ معَهُ علَى ممارسةِ تغييرٍ يتناسبُ معَ الموقفِ، وقدْ يكونُ تغييرًا ارتجاليًّا يؤدِّي إلى نتائجَ كارثيَّةٍ، فماذَا يعنِي ذلكَ؟! يعنِي أهميَّةَ الاستعدادِ للتَّغييرِ حينَ تكونُ الأوضاعُ مستقرَّةً، وحتَّى معَ غيابِ المؤشِّراتِ علَى وجودِ أيِّ مخاطرَ، فلابُدَّ مِن وجودِ خطَّةِ (ب) و(ج)، وهكذَا، ومعَ الأسفِ، هذهِ الخطوةِ هِي التِي يتهاونُ فيهَا الكثيرُونَ، ففِي ظلِّ الظروفِ الطارئةِ تتَّسمُ العقولُ بالتَّشويشِ وعدمِ تداركِ المخاطرِ إلَّا بوقوعِهَا.
والكتابُ تناولَ ثلاثةَ أنماطٍ مِن التَّعاملِ معَ التَّغييرِ، مِن خلالِ مواقفِ أبطالِ القصَّةِ معَ الجُبنِ، لقدْ اطمأنُوا وارتاحُوا وتكاسلُوا حتَّى نَفَدَ الجُبنُ منهُم، وباتُوا فِي مواجهةِ الجوعِ، فكانَ موقفُ الفأرَينِ «سنيف» و«سكوري» أنَّهمَا لمْ يتعبَا فِي تحليلِ الأحداثِ و«الحلطمةِ» والتَّساؤلِ! ولمْ يرهقَا أنفسهمَا بأوهامٍ تخيفهمَا، بلْ وبكلِّ غرائزيَّةٍ استغلَّا حاسَّةَ الشَّمِّ، ودخلَا المتاهةَ بحثًا عَن الجُبنِ، هذَا النمطُ الغرائزيُّ أصحابُهُ لا يسعُونَ إلَى التَّعلُّمِ مِن تجاربِهِم وطموحاتِهِم إلَّا بحجمِ احتياجاتِهِم الآنيَّةِ، فتراهُم طوالَ حياتِهِم علَى ذاتِ المستوَى الأفقيِّ دونَ نموٍّ.
أمَّا النَّمطُ الثَّانِي فتمثَّل فِي تعاملِ «هيم» الذِي استسلمَ وعاشَ دورَ الضحيَّةَ و«الحلطمةَ»، واستسلمَ لأوهامِهِ وخوفِهِ مِن المجهولِ مِن المتاهةِ، رافضًا تغييرَ طريقةِ تفكيرِهِ، مفضِّلًا البقاءَ فِي مكانهِ منتظرًا الحظَّ يجلبُ لهُ الجُبنَ، ورغمَ أنَّ «هاو» شاركَهُ السلبيَّةَ، و«الندبَ» بدايةَ الأمرِ، لكنَّهُ اتَّخذَ النَّمطَ الثَّالثَ فِي التَّعاملِ معَ التَّغييرِ الحاصلِ، حينَ أدركَ أنَّهُ مَا لمْ يدخلِ المتاهةَ؛ بحثًا عَن جُبنٍ فسيهلكُ مِن الجوعِ، ورغمَ خوفهِ استوعبَ موقفَهُ، وقرَّرَ الرَّكضَ فِي المتاهةِ، وتجربتهُ جعلتهُ يعثرُ علَى قطعِ جبنٍ فِي طريقِهِ، تناولَهَا ليكتشفَ مِن طعمِهَا أنَّه كانَ طوالَ فترةِ وجودِهِ فِي المحطَّةِ السَّابقةِ يتناولُ جُبنًا عفنًا نتيجةَ طولِ فترتِهِ، فكيفَ لمْ يلحظْ عفونتَهُ؟!
هكذَا شيئًا فشيئًا، وطوالَ طريقِهِ يتفكَّرُ حتَّى عثرَ علَى محطَّةٍ جديدةٍ تمتلئُ بالجُبنِ الطَّازجِ، فأدركَ أهميَّةَ أنْ يستعدَّ للتَّغييرِ المقبلِ معَ نفادِ الجُبنِ، إلَّا أنَّ السؤال هنا: هل أدرك أن الجبن لن ينتظر طويلا وسيتعفن! هذه الفكرة الأخيرة تعني أهمية مراجعة التغيير، وليس فقط الاستعداد له، فمتى ما بدأ لون أو رائحة الجبن أو طعمه يتغير فهو مؤشر على أهمية البدء في تغيير جديد، والأهم التفكير بسبل تمنع تعفنه، فماذا يعني ذلك؟! يعني أهمية استيعاب التغيير الحاصل، وإدراك تفاصيله من جذوره العميقة، ولا يتأتى إلا من خلال «مراجعة التغيير» بشكل دوري.
إنَّ المراجعاتِ الدوريَّةَ فِي أيِّ عمليَّةِ «تغييرٍ» تعملُ علَى حمايةِ النتائجِ الناجحةِ؛ خاصَّةً وأنَّ عمليَّةَ التَّغييرِ لا تتجمَّدُ إلَّا بتوقُّفِ الزَّمنِ، وهذَا مِن شأنِهِ أنْ يُطوِّرَ تقنياتِ التَّغييرِ ذاتِهِ، ويحقِّق الاستدامةَ والاستمراريَّةَ والنموَّ، هذهِ المسألةُ لَا تخصُّ فقطْ المنظَّماتِ والشَّركاتِ والدُّولِ، بلْ علَى مستوَى حياةِ الإنسانِ نفسِهِ معَ تجربتِهِ فِي الحياةِ، فكلٌّ منَّا يحتاجُ أنْ يراجعَ مراحلَهُ المتغيِّرةِ ومحطَّاتِهِ، وقائمةَ علاقاتِهِ، وتجربتَهُ العمليَّةَ، هكذَا حتَّى نهايةِ الطَّريقِ.
@halimamuthffar