Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

قراءة متأنية لرواية «رحلة الدم» لإبراهيم عيسى (1)

A A
لم يكتف الأستاذ إبراهيم عيسى، أحد أعضاء مجلس أمناء «مركز تكوين الفكر العربي»، بالتشكيك في صحة السيرة النبوية، فنجده في روايته التي أسماها «رحلة الدم - القتلة الأوائل» الصادرة عام (2016) في (708) صفحة، للقضاء على كل قدوة من صحابته، بمن فيهم المبشرون بالجنة، وكتبة الوحي، ولاسيما سيدنا عثمان بن عفّان؛ فما من نقيصة إلّا وألحقها بصحابة رسول الله، مستندًا على روايات موضوعة توافق ما هدف إليه من روايته، فأخذ من كتب التراث التي يهاجمها، الروايات الموضوعة من قبل من يكنّون العداء لسيدنا أبي بكر وعمر وعثمان وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم، فلم يكن أمينًا في النقل منها، فأخذ من تاريخ الطبري روايات أبي مخنف المعروف موقفه العدائي لكبار الصحابة، وأخذ جملة من بعضها، ولم يكمل باقيها، كالذين يُرددون قوله تعالى: (ويل للمصلين..) ولا يُكملون (الذين عن صلاتهم ساهون)، وأحد مراجعه «سقيفة حُبِّي» تأليف جورج كدر لا علاقة لها بموضوع روايته.

والذي استوقفني في هذه الرواية:

أولًا: نيله من شرف الرسول الكريم وعدله، بإثارته إشاعة لا علاقة لها بموضوع الرواية، وذكرها دون التحري والتدقيق في مدى صحتها، جاعلًا من شخصية صالح القبطي التي أضاف إليها من نسيج خياله، مرددًا لهذه الشائعة وعرّفه خلاف ما أورده عنه كُتّاب التراجم في مقدمتهم ابن الأثير في أسد الغابة، وابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة، فقد ورد فيهما أن صالح القبطي: سار من مصر إلى المدينة مع مارية القبطية، ولم يهده المقوقس، وإنّما كان اتبعها من قريتها، ولكن الأستاذ عيسى عرّفه بأنّه تاجر كتّان وتعرَّف في رحلات الشتاء والصيف على عرب من الجزيرة واليمن وتعلَّم معهم العربية (الصواب تعلّم منهم) حتى يدبر تجارته. ثم يروي صالح القبطي كيف ذهب إلى المدينة ورؤيته النبي الكريم وإسلامه؛ إذ أتاه حاطب بن بلتعة رضي الله عنه ومعه هدية المقوقس حاكم مصر إلى النبي الكريم، مارية القبطية وأختها سيرين ومأبور وحمار، فقد طلب منه حاطب مرافقته إلى المدينة؛ حيث أسلم صالح، واستقر فيها. ونلاحظ أنّ عيسى وقع في خطأيْن عند تعريفه بشخصية صالح القبطي من نسج خياله، أولهما قوله الجزيرة واليمن، فقد فصل اليمن عن شبه الجزيرة العربية، مع أنّها جزءًا منها؛ وثانيهما رحلة الشتاء والصيف، كانت تقوم بها قريش من مكة إلى الشام صيفًا، وإلى اليمن شتاءً، كما جاء في سورة قريش، وليس من مصر إلى الشام صيفًا وإلى اليمن شتاءً، واستحضر المؤلف إشاعة حمل السيدة مارية القبطية من مؤبر القبطي (الخصي) على لسان صالح القبطي، رغم مرور 12 عامًا على الادعاء بها، وذلك ليشوّه المؤلف صورة النبي الكريم بأنّه يأمر بالقتل لمجرد سمع كلامًا لم يتحقق من صحته.. وهذا خطأ، لأنّ معظم المُحدّثين اهتموا بصحة السند دون المتن، مع أنّ المتن إن كان مخالفًا للقرآن الكريم، أو ضعيفًا لا يؤخذ به حتى وإن صح سنده، وهذا الحديث يخالف قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، كما أنّ متنه لا يتفق مع صفات نبي الله ورسوله، ولا يتفق مع شخصيته وأخلاقه، ولو صدر منه مثل هذا التصرّف لعاتبه الله كما عاتبه في حادثة عبدالله بن مكتوم في سورة عبس، كما هدف المؤلف إلى الإساءة لأم المؤمنين السيدة مارية القبطيّة التي تزوجها الرسول الكريم، فضرب عليها الحجاب، وقد كرّمها الله بأن أنزل فيها قرآنًا (يا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِي مَرضَاتَ أَزواجِكَ وَاللَّهُ غَفُور رحِيم).. ثمّ إنّ الأستاذ عيسى لا يؤمن بصحة الأحاديث النبوية ولا بصحة السيرة النبوية، فعلى أي أساس يستحضر هذه الحادثة؟.

ثانياً: مما استوقفني في الرواية اسمها: «رحلة الدم - القتلة الأوائل»، وهو يرمز إلى نشر الإسلام بحد السيف، ترديداً منه لمزاعم المستشرقين، وتسمية الرسول الكريم وصحابته بالقتلة الأوائل، وأن الدوافع الرئيسية للفتوحات هي حاجة المسلمين للمال لما يعانونه من الفقر.

ولم يتطرق الأستاذ عيسى إلى حال المصريين تحت الحكم البيزنطي على مدى ثلاثة قرون، وما عانوه من ظلم واستعباد واضطهاد ديني ونهب خيرات بلادهم؛ إذ اعتبر الأباطرة البيزنطيون مصر مستودعًا للقمح وأصبحت أراضيها الزراعية کلها ملكاً للإمبراطور البيزنطي، وكانت مصر مقاطعة رومانية فترة الحكم الروماني، بينما العرب المسلمون منحوهم حق الحرية الدينية، وخلّصوهم من الاضطهاد الديني الذي كانوا يعانون منه، ولم يفرضوا عليهم الإسلام، ولم يأخذوا من الذين لم يسلموا من الرجال المصريين القادرين على حمل السلاح سوى ديناريْن للفرد الواحد مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية، ومن يقاتل يُعفى من دفعهما، ويُنفق من الجزية على مشاريع خدمية في مصر، ومع هذا نجد الأستاذ عيسى يصب جم غضبه على الفاتحين العرب، ويصور الصحابة بأنّ همهم السبايا من النساء الروميات، وحرص على اتهام عمرو بن العاص أنّه كان يغدق العطايا على الذين يبلغون ابن الخطّاب رضي الله عنه ليأمن جانبهم، ويصوّر حروب المسلمين على أنها قائمة على سفك الدماء.

للحديث صلة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store