حدثنا مصباح بن أبي موسى، عن ابن أبي قالة؛ إنه قال: «كنتُ يومًا في دار صديق من أصدقاء حديث المجالس، فنمجغ القول مجغًا، ونأكل الحديث أكلًا، فإذا ما تواردنا على مائدة العشاء، وتسابقت الأيادي نحو الأطباق المثخونة بما لذ وطاب، أكلنا كالسباع الساغبة، دون أدب أو بسملة، فنجرُّ ما تفرمه الأسنان، وتقرطه نحو أودية الأمعاء وسفوح البطون، فنطمأن على سلامتها واستقرارها، بعد أنْ أخذت مساربها وسيوحها في جوف المعدة، فإذا ما توارينا عن الأكل، وانسحبت الأيادي عن الأطباق، حدَّقنا بعيوننا نحو كروشنا وبطوننا فكأنها الزيرة، ثم بضربة كف اليد نسمعها كالطبول والدفوف، فلا ينقصها سوى المناقع لتقام عليها عرضة تدور رحاها ما بين ذهاب وإياب، ثم يضع كل واحد منا يده -قبل غسلها- على ركبته، فتتدلَّى منهدلة كغصن معشب بموفور الحشرات، ووافر الفطريات، مع بقايا طعام ينهل من بين الشفاه ومفارق الأسنان، فيسلبنا أحدهم بعبارة قد أنستنا ما تبقى من غثى المعدة، وغطش الأيادي، وبقايا الطعام وشيء من اللعاب النَّتن ما بين الأصابع وتحت الأظافر، ونحن على تلك الحال من الإفراط والتَّفريط، والسخف والمجانة».
قال مصباح ابن أبي موسى: «وأنا على حالي من الإنصات والإصغاء إلى ابن أبي قالة، حتَّى كدتُ أنْ أجرَّ لسانه من بلعومه؛ لمعرفة مغزى عبارته؛ فاستعصم وأبى، واستعاض بالوصف عن مضمون العبارة».
وبعد ممانعة، ومجاراة له، قال ابن أبي قالة: «لعلِّي أخبرك بما غبر من حالي وحال بعض أولئك الأصدقاء، بعد أنْ ألبسني الشيب رداءه، فطال كل شيء في عباءة جلدي، وكساني ثوب التجاعيد، كأنَّها أودية جرداء قد جفَّت من ماء الحياة والحياء، وها هي يدي تشمطت فبدت للناظر كأنَّها خشبة مأكولة بالسوس، منخورة بالعثة، أمَّا جسدي، فكما ترى؛ كأنَّه شجرة عرعر تجرَّد من الأوراق، فغدا مسلوب القوام، أسيرًا متمايل الخطوات، محدودب الظهر، مقوِّس الرقبة، إنَّني الآنَ روح تتنفس وتنتظر خروجها واستلالها».
فقلتُ له يا مغضوب عليه، وماذا غيَّر حالكم؟، فلم يمهلني حتَّى اعتدل في جلسته بعد عناء، ثمَّ اتَّكأ بعد كدٍّ على وسادة جمعت كلَّ الأوساخ والقذارات، ثم قال، والجهد يكسو ملامحه: «كنَّا، كل ليلة بعد حشو البطون، وملء الكروش، وتثاقل الأجسام، ودون ترتيب أو سابق تدبير، نقوم باستحضار واحد ممَّن نعرفه؛ تارة جارنا سعيد، وتارة إمام مسجدنا معاذ، وتارة معلِّمنا زيد، وتارة صاحبنا مسعود، فنسلخه بالحديث سلخًا، ونجرِّده من كلِّ حسنة جردًا، وننزع منه كلَّ مكرمةٍ نزعًا، فننبش ماضيه وحاضره، ثمَّ ننخل مثالبه، ونضخِّم عيوبه، فلا ندع صغيرة ولا كبيرة من كلِّ ذلك، إلَّا وأودعنها ألسنتنا كما نودع بطوننا باللحم وشهي المأكل، وضحكاتنا تعم الأرجاء، فلو قُدِّر لمفرشنا أنْ ينطق لصاح فينا، ولنفث في وجوهنا واحدًا وحدًا تارة بالرماد، تارات ببقايا روث الحمير والخنازير».