Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سعود كاتب

حول كاريزما البشر.. وكاريزما الدول

A A
وفقًا لعددٍ مِن معاجمِ اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، فإنَّ كلمةَ «كاريزمَا» charisma تعودُ إلى أصولٍ يونانيَّةٍ قديمةٍ ذات ارتباطٍ دينيٍّ، يعنِي الهبةَ والمنحةَ الإلهيَّةَ التِي تُضفِي علَى صاحبِهَا قدسيَّةً ورفعةً فِي عيونِ الآخرِينَ. وهِي تُستخدمُ اليومَ لوصفِ الشَّخصِ الذِي يمتلكُ سِمةً ربانيَّةً تجعلُه قادرًا علَى الولوجِ السَّريعِ لقلوبِ الآخرِينَ وإلهامِهِم، والتأثيرِ بهِم وإقناعِهِم بسهولةٍ؛ بمَا يريدُ.

وتختلفُ الآراءُ حولَ مدَى قدرةِ الفردِ علَى صناعةِ الكاريزمَا بوسائلَ مختلفةٍ تشملُ: التدريبَ والتعليمَ، والسلطةَ والثروةَ والأناقةَ، وغيرَ ذلكَ. وفِي رأيِي الشخصيِّ فإنَّ «الكاريزمَا» هِي نتاجُ عناصرَ عديدةٍ متداخلةٍ، بعضُهُا لَا يمكنُ تحديدَ كنهِهَا وماهيَّتِهَا. ومِن ثمَّ فإنَّ الكاريزمَا لَا يمكنُ صناعتهَا أو تصنُّعهَا، بلْ يمكنُ فقطْ صقلهَا وتنميتهَا بأيٍِّ مِن الوسائلِ السابقةِ. وهنَا ينبغِي التَّفريقُ بينَ الانجذابِ اللَّحظيِّ السَّريعِ لشخصٍ مَا؛ بسببِ موهبتِهِ، أو جمالِهِ، أو أناقتِهِ، أو ثروتِهِ، أو سلطتِهِ، وبينَ الكاريزمَا الحقيقيَّةِ العميقةِ مستمرَّة الأثرِ والتَّأثيرِ. فإعجابُنَا وانجذابُنَا مثلًا للاعبٍ موهوبٍ مثلِ ميسي، أو كريستيانو، لَا يعنِي بالضرورةِ أنَّ أيًّا منهمَا يمتلكُ الكاريزمَا، كمَا أنَّ امتلاكَ مشهورٍ أو مشهورةٍ لملايِين المتابعِينَ علَى شبكةِ تواصلٍ، لَا يعنِي بأيِّ حالٍ امتلاكَ ولوْ قدرٍ ضئيلٍ مِن الكاريزمَا.

وهناكَ الكثيرُ مِن أوجهِ الشبهِ بينَ كاريزمَا البشرِ وكاريزمَا الدُّولِ، وبهذَا الخصوصِ ذكرتُ فِي كتابِي عَن الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ، بأنَّ للدُّولِ أيضًا كاريزمَا تتجسَّدُ فِي مصادرِ قوتِهَا الناعمةِ؛ التِي تمنحهَا جاذبيَّةً وحبًّا وقبولًا فِي نفوسِ الآخرِينَ، يجعلهُم يفضِّلُونَها عَن سِوَاهَا بالزيارةِ والسياحةِ والاستثمارِ. وكثيرًا مَا أُسأَلُ عَن مدَى إمكانيَّةِ قيامِ الدُّولِ التِي ليسَ لديهَا مصادرُ قوَّةٍ ناعمةٍ، بصناعةِ تلكَ القوَّةِ لنفسِهَا؟ والإجابةُ هِي، نعمْ.. يمكنُ للدُّولِ صناعةَ بعضِ مصادرِ القوَّةِ النَّاعمةِ، ولكنَّهَا لنْ تكونَ كافيةً للقولِ بأنَّ لديهَا «كاريزمَا»، ولنْ يكونَ لدَى تلكَ المصادرِ المصنوعةِ نفسُ جاذبيَّةِ وتأثيرِ واستدامةِ القوَّةِ النَّاعمةِ الأصليَّةِ؛ التِي تمتلكُ جذورًا عميقةً، وترتبطُ في الأذهانِ مباشرةً بتاريخِ وهويةِ البلدِ. والاستثناءُ الوحيدُ بهذَا الصَّددِ هُو أنْ تتمكَّنَ تلكَ المصادرُ «المصنوعةُ» مِن ترسيخِ نفسِهَا فِي نفوسِ النَّاسِ وأذهانِهِم لفترةٍ زمنيَّةٍ كافيةٍ، وعبرَ نتائجَ مؤثِّرةٍ ذات معنَى. فعلَى سبيلِ المثالِ، تمتلكُ البرازيلُ قوَّةً ناعمةً «مصنوعةً» ترتبطُ بكرةِ القدمِ، تمكَّنتْ مِن ترسيخِهَا وتحويلِهَا لكاريزمَا، خلالَ عقودٍ مِن حصدِ البطولاتِ، وصناعةِ النجومِ، وإمتاعِ الجماهيرِ حولَ العالمِ بأسلوبٍ وعلامةٍ متميَّزةٍ تُسمَّى «الكرة البرازيليَّة».

ومن أوجه الشبه الأخرى بين كاريزما البشر وكاريزما الدول، هو أن كليهما يرتبط بسلاسة الأمر وبساطته وأصالته، وليس بتعقيده وضخامته وتهويله. فمن الممكن أن يمتلك شخص كاريزما هائلة، رغم افتقاره للمال والشهادات العلمية والسلطة. كما يمكن أن تساهم أمور بسيطة بمنح بلد معين جاذبية ضخمة، ومثال ذلك قيام نائب الرئيس الهندي بإلقاء كلمة خلال مؤتمر حول القوة الناعمة؛ تركز معظمها حول الكوزين الهندي واليوجا. وممَّا قالهُ إنَّ «اليوجَا والمطبخَ الهنديَّ غيَّرتا نظرةَ العالمِ للهندِ، وأنَّ الأكلَ الهنديَّ (نعمْ.. الأكلَ الهنديَّ) يعودُ لهُ الفضلُ فِي وضعِ الهندِ علَى خارطةِ العالمِ».

خلاصةُ القولِ: الكاريزمَا هِي المستوَى الأعلَى للجاذبيَّةِ، وأبرزُ ملامحِهَا هُو السُّمعةُ الطَّيبةُ وحُبُّ النَّاسِ الصَّادقِ واحترامُهُم غيرُ المشروطِ.. وأُولَى خُطواتِ الارتقاءِ نحوَ تلكَ الكاريزمَا هُو الإنصاتُ، ومهاراتُ الاتِّصالِ، واللباقةُ، والعطاءُ، والتَّواضعُ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store