بينَ نقطتَي الولادةِ والموتِ، تكمنُ كثيرٌ مِن الآلامِ؛ لأنَّ حياةَ الإنسانِ تشبهُ الرِّوايةَ، أو القصَّةَ القصيرةَ، أو القصيرةَ جدًّا، أو كمَا قالَ «عبَّاس العقَّاد»، مُنتقدًا الرِّوايةَ بأنَّها: كثيرٌ مِن الخرنوبِ، وقليلٌ مِن الحلاوةِ!.
حياةُ البشرِ، روايةٌ طويلةٌ، أو قصيرةٌ مشمولةٌ بالآلامِ، الذِي يشبهُ الخرنوبَ -جافًّا وخشبيَّ المظهرِ والمَلمَسِ- حتَّى لوْ لمْ نتَّفقْ معَ رأيِ «العقَّادِ» فِي تشبيهِهِ للرِّوايةِ مِن وجهةِ نظرِهِ؛ لأنَّهُ لمْ يكنْ معجبًا بالرِّوايةِ.
كذلكَ يمكنُ تقبُّل رأيِ «العقَّادِ»، علَى أنَّ الرِّوايةَ حياةٌ موازيةٌ، فَهِي مليئةٌ بالصِّراعِ والآلامِ، ولحظاتٌ قليلةٌ يطفُو الفرحُ، ثُمَّ يغوصُ فِي أعماقِ الصِّراعِ، ليسَ فقطْ بينَ الشَّخصيَّاتِ، بلْ بينَ المرءِ وحياتِهِ وجسدِهِ، بينَهُ وبينَ أحلامِهِ وتطلُّعاتِهِ وإحباطاتِهِ ونكساتِهِ، ثُمَّ تتضافرُ عليهِ صراعاتُ الأحقادِ والمطامعِ فِي محيطهِ الاجتماعيِّ، أو فِي محيطِ العملِ، أو داخلَ الأُسرةِ.
لا شكَّ أنَّ النَّجاحَ يمثِّلُ منتهَى الحلاوةِ، لكنَّ الفشلَ المتكرِّرَ فِي الحياةِ يُحْدِثُ كثيرًا مِن الألمِ فِي نفسِ المرءِ، عندمَا يعيقهُ عَن معاودةِ الكَرَّةِ ألفَ مرَّةٍ، كمَا قالَ «أديسون»، أعدتُ التَّجربةَ ألفَ مرَّةٍ! لمْ يقلْ فشلتُ ألفَ مرَّةٍ، هذهِ هِي لذَّةُ الإحساسِ بالفشلِ، والقدرةِ علَى النهوض مرَّة ومرَّات، كلَّما تعرَّض المرءُ للسُّقوطِ ليبدأَ السَّيرَ مِن جديدٍ، ويبلغَ الهدفَ مهمَا رآهُ كالسَّرابِ كلَّمَا اقتربَ منهُ لمْ يجدهُ.
أحيانًا أو كثيرًا؛ نتغاضَى عَن كثيرٍ مِن حقائقِ الحياةِ الدَّنيَا، أو أنَّنَا نحاولُ تجاهلَهَا رغمَ أنَّهَا بينَ أيديِنَا، تقتحمُ طمأنينتَنَا، تُوهنُ عزيمتَنَا أحيانًا، تُرهقُ قلوبَنَا، معَ ذلكَ نحاولُ حجبَ رؤيتِنَا وتجاهلَ وجودِهَا، أو ذكرِهَا؛ كالموتِ والمرضِ والألمِ والعَثَراتِ التِي عرقلتْ أحلامَنَا وطموحاتِنَا، نحاولُ -بكلِّ طاقتِنَا- تجاهلَ آلامِنَا، معَ أنَّ الألمَ معنى وجوديٌّ كالتَّفكيرِ. والفَرَحُ والسَّعادةُ، الحُبُّ والكُرهُ، كلُّ هذهِ الثنائيَّاتِ هِي التِي تُعطِي لحياتِكَ معنًى، فإذَا كانَ التَّفكيرُ يمثِّلُ الوجودَ الحقيقيَّ كمَا قالَ «ديكارت»: «أنَا أُفكِّرُ فَأنَا موجودٌ»، فالألمُ أيضًا يحقِّقُ الوجودَ، أو أنَّه توأمُ الحياةِ.
فِي لحظةِ الولادةِ يتجسَّدُ هذَا المعنَى الوجوديُّ للألمِ. لحظةُ الميلادِ هِي قمَّةُ ألمِ الوالدةِ، تحدثُ خلالَهَا معجزةُ انبثاقٍ لحياةٍ جديدةٍ، ولروحٍ غضَّةٍ؛ كالبرعمِ يتفتَّحُ للحياةِ.
الألمُ فِي الفلسفةِ: إحدَى الظَّواهرِ الوجدانيَّةِ الأساسيَّةِ، وفِي علمِ النَّفسِ: شعورٌ بمَا يُضَادُّ اللَّذةَ مِن عدمِ الرَّاحةِ، أو الضِّيقِ، أو المَضَضِ. الفيلسوفُ «فريدريك نيتشة» عانَى مِن الألمِ والمرضِ فِي حياتِهِ، وكتبَ كثيرًا عَن معنَى الألمِ مِن حيثُ صلتِهِ بمعنَى الحياةِ بشكلٍ عامٍّ، ومِن بينِ مقولاتِهِ الشَّهيرةِ: «سبقَ أنْ قُلتُم نعمْ للَّذةِ، بعدَهَا قُلتُم نعمْ للألمِ أيضًا»! كلُّ الأشياءِ مترابطةٌ، متشابكةٌ فِي حُبِّ بعضِهَا بعضًا. أو كمَا يُقالُ: «مَا لَا يقتلُنِي يجعلُنِي أقوَى».
بقدرِ مَا يكونُ الألمُ إحساسًا، أو شعورًا سلبيًّا بعدمِ السَّعادةِ أو المعاناةِ، إلَّا أنَّه أحيانًا يمتزجُ بالسَّعادةِ كمَا يحدثُ للنِّساءِ لحظةِ الولادةِ، بقدرِ آلامِ المخاضِ إلَّا أنَّ لحظةَ الميلادِ، وخروجَ حياةٍ أُخْرَى هِي السَّعادةُ الحقيقيَّةُ، التِي لا تعادلُهَا سعادةٌ، إلَّا العِنَاية بهذَا المولودِ ورعايتهُ وسعادتهُ.
إنَّنا نحاولُ تجاهلَ آلامِنَا، أو الخَلاصَ منهَا بكثيرٍ مِن الممارساتِ التِي يعرَّفُهَا علماءُ النَّفسِ بأنَّها: «هروبٌ»، كمَن ينغمسُ فِي اللهوِّ بأشكالِهِ، أو فِي العزلةِ، أو فِي أشكالٍ أُخْرَى، ليسَ هذَا مجالَ سردِهَا!.
الحزن والألم، مشاعر الفرح والسعادة، الحب والكره، الرغبة والرهبة، ثنائيات تقتحم حياتنا في أي لحظة، لكن يظل الألم رمز الحياة وتوأمها، لا يتخلى عنها إلا عندما تتخلى الروح عن الجسد، فالموت هو خلاص الانسان من كل تلك الثنائيات الوجودية، لذلك يعتبر الموت راحة في ثقافتنا العربية.
«الموتُ يعيدُ صياغةَ البشرِ، ويجعلهُم أكثرَ إحساسًا بالحياةِ».. «عبدالرحمن منيف» فِي إحدَى رواياتِهِ؛ لأنَّ الموتَ أعظمُ ألمٍ وأقساهُ لمَن فَقَدَ عزيزًا. كلُّ الآلامِ يمكنُكَ احتمالهَا، ويمكنُكَ الصَّبر عليهَا حتَّى تتلاشَى وتزولَ مِن الجسدِ أو النَّفسِ، لكنَّ «الموتَ»، ألمهُ شديدٌ، لا تملكُ مسكنًا يخفِّفُ وطأةَ ألمِهِ غير الصَّبرِ، ولا تملكُ مشرطًا يستأصلُ مكمنَ الألمِ غيرَ الإيمانِ العميقِ بأنَّ: «كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ»، و»لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ».