أواصل الحديث عمّا استوقفني في رواية "رحلة الدم" لإبراهيم عيسى أثناء قراءتي لها:
ثالثًا: نيله من شخص سيدنا عمر بن الخطّاب، وتصويره بالقسوة والخشونة، إلا أن قصته رضي الله عنه مع الأطفال الأيتام وأمهم الذين سمعهم يبكون من الجوع أثناء تفقده الرعية، فذهب إلى بيت المال، وحمل على ظهره كيسًا من الدقيق وسمنًا وعسلًا، وطهى لهم الطعام بنفسه؛ تشهد على حنانه ورقة مشاعره، ويقظة ضميره وخوفه من الله، والغريب أنّ الأستاذ عيسى رغم نيله من سيدنا عمرو بن العاص إلّا أنّه لم يذكر قصة المصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص بالسوط؛ لفوزه عليه في السباق، فشكاه لسيدنا عمر، فاستدعى الابن وأباه (عمرو بن العاص) إلى المدينة، وقال سيدنا عمر للمصري: "اضرب ابن الأكرمين، فضربه، ولمّا فرغ منه، قال عمر للمصري: "ضع على عمرو!"، فقال:" يا أمير المؤمنين إنّما ابنه الذي ضربني، وقد اشتفيتُ منه، فما كان من عمر أن وجه حديثه لعمرو بن العاص بكلمته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟"، فهذه القصة لم يوردها المؤلف، لأنّها تؤكد على عدل الفاروق رضي الله عنه، والمؤلف لا يريد أن يسجل أية محمدة ومكرمة لصحابي جليل من كبار صحابة رسول الله، وهذا يخالف الصورة التي يصوِّر صحابة الرسول في روايته أنّهم لا هم لهم إلاّ المال والغنائم والنساء، بل وقتل بعضهم البعض، وبلغ به الأمر إلى اتهام أم المؤمنين السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب أنّهما حرّضا على قتل سيدنا عثمان، مع أنّ السيدة عائشة خرجت إلى صفين مطالبة بدم قتلة عثمان، وسيدنا علي طلب من ولديه الحسن والحسين أن يحرسا سيدنا عثمان وحمايته من اعتداء الثوّار، كما نجد تشويهه لصور كبار الصحابة امتد إلى أولادهم، فقد اتهم محمد بن أبي بكر الصديق أنَه همَّ بقتل سيدنا عثمان، وتراجع، وخاطبه بكلمات قاسية خالية من أي تقدير لصحابي جليل وصهر رسول الله، وأحد المبشرين بالجنة وحاكم المسلمين، وهو برئ من هذا الاتهام.
بل زعم أنّ السيدة عائشة على علم بما سيفعله أخوها، واتهم عبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن عديس بقتل سيدنا عثمان. أمّا عبدالرحمن بن عديس فهو من صحابة رسول الله، ولم يثبت أنّه من أصحاب الشجرة، إنّما أتى ذلك الخبر عن ابن لهيعة، وهو شديد الضعف، وخبر كونه من قتلة عثمان إنّما جاء من طريق الواقدي. وزعم ابن ماكولا أنّ الدارقطني قد نقل ذلك، لكنه لم يذكر الإسناد. فلعل المرجع هو الواقدي، والواقدي ليس من الثقات.
خلاصة القول: لم يشارك أحد من الصحابة في قتل عثمان، كما قال النووي في "شرح مسلم"، وقال ابن كثير، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسهم ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة.
رابعًا: طعنه في نسب سيدنا عمرو بن العاص زاعمًا أنّ أمّه بغي، وهذا الاتهام لم يأت في خبر صحيح الإسناد، وقد أشار إليه الطبري في تاريخه عند ذكر خبر واقعة صفين من رواية أبي مخنّف الشيعي الكذّاب، كما ورد في بعض كتب الأدب، وكتب الأدب لا تعتني بأسانيد الأخبار وصحتها، وإنّما عنايتها بجمع الغرائب والنوادر من الأخبار والخطب والأشعار، وإن كانت مصنوعة ومكذوبة.. والحقيقة أنّ أم عمرو بن العاص هي سلمى بنت حرملة من بني جلان بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وكانت من سبايا العرب، أُسرت خلال المعارك وبيعت في سوق عكاظ، حيث اشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم باعها عبدالله بن جدعان. بعد ذلك، أصبحت ملكًا للعاص بن وائل، وهو والد عمرو بن العاص.
خامسًا: وصف جنود جيش المسلمين بأنهم "أميون لا يحفظون قرآن ربهم".. وأن منهم لم يأت مصر شاهرًا سيفه، بل فاتحًا فمه، (كنايةً عن هدفه "الأموال والغنائم")، وكيف يقول لا يحفظون قرآن ربهم، وفيهم من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلّد وغيرهم رضوان الله عليهم؟، ولكن الأستاذ إبراهيم عيسى ترك هؤلاء، وسلط الضوء على عبدالرحمن ابن ملجم الخارجي، قاتل علي بن أبي طالب، وجعله هو الوحيد الذي يحفظ القرآن، ويقرأه، ويُعلِّمه، وهو البطل الرئيسي لروايته، وأقرب إلى المثالية، ويناديه بـ "يا حافظ القرآن"، ويا قارئ القرآن!، بل نجده يبرر لقتله سيدنا علي بطريق غير مباشر من خلال المشهد الأخير في روايته، وهو مشهد مبايعة سيدنا علي كرّم الله وجهه؛ إذ مد ابن ملجم يده لمبايعته، ولكن سيدنا علي لم يُمكِّنه منها، فردد وتمتم ابن ملجم (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).
للحديث صلة.