أواصلُ قراءتِي لروايةِ «رحلةِ الدَّمِ» لإبراهيم عيسى، وسأتوقَّفُ هنَا عندَ ثلاثِ شخصيَّاتٍ محوريَّةٍ فِي أحداثِ فتنةِ مقتلِ سيدِنَا عثمانَ وفقَ رؤيةِ المؤلِّفِ، وهُم:
* كنانةُ بن بشر بن عتاب التجيبي، ساهمَ بقتلِ الخليفةِ عثمانَ، وهُو مِن الخوارجِ الذِينَ خرجُوا عَن حُكمِ الخليفةِ عليِّ بن أبي طالب، وكانَ مِن قنائصِ عبدالله بن سبأ فِي مصرَ، ولكنَّ المؤلِّفَ أخفَى حقيقتَهُ هذهِ؛ لأنَّه اعتمدَ رواياتِ الشيعةِ التِي تنكرُ أنَّ عبدالله بن سبأ اليهوديَّ هُو الذِي بثَّ بذورِ الفتنةِ فِي صفوفِ المسلمِينَ فِي مصرَ والكوفةِ والبصرَة، وألَّبهُم علَى سيدِنَا عثمانَ، وعندمَا جمعُوا شبابَ القبائلِ للزَّحفِ علَى المدينةِ بحيلةِ الحجِّ فِي شوَّال سنة 35 انقسمُوا فِي مصرَ إلى أربعِ فرقٍ علَى كلِّ فرقةٍ أميرٌ، وكانَ كنانة بن بشر أميرًا على إحدَى هذهِ الفرقِ، ثُمَّ كانَ فِِي طليعةِ مَن اقتحمَ الدَّارَ علَى عثمانَ وبيدِهِ شعلةٌ مِن نارٍ تنضحُ بالنفطِ، فدخلَ مِن دارِ عمرو بن حزم، ودخلتِ الشعلُ علَى إثرِهِ. ووصلَ كنانة التجيبي إلى عثمانَ، فأشعرَهُ مشقصًا (أيّ نصلًا طويلًا عريضًا) فانتضحَ الدَّمُ علَى آيةِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ)، وقطعَ يدَ نائلة زوجةِ عثمانَ، واتَّكأَ بالسَّيفِ علَى صدرِ عثمانَ وقتلَهُ.
* حُبَّى: التِي يزعمُ المؤلِّفُ أنَّها عالجتِ السيِّدةَ نائلة عندَ بترِ أصابعِهَا، وهِي الوحيدةُ التِي سعتْ إلَى دفنِ سيِّدنَا عثمانَ الذِي ظلَّ جثمانُهُ ثلاثةَ أيَّامٍ فِي بيتِهِ قبلَ أنْ يُوارَى جسدُهُ التُّرابَ، وهِي مجهولةُ النَّسبِ والهُويَّة، ماجنةٌ، جعلَها المؤلِّفُ الشخصيَّةَ النسائيَّةَ الرئيسةَ فِي روايتِهِ، ويدَّعي أنَّها شخصيَّةٌ حقيقيَّةٌ، معَ أنَّها مجهولةٌ، فلْم تتطرَّق المصادرُ التِي وردَ فيهَا اسمُ «حُبِّي» إلَى نسبِهَا وقبيلتِهَا، وهَا هُو جورج كدر يُعرِّفنَا بهَا متسائلًا: «مَن هِي حُبَّى المدينيَّة؟»، هلْ هِي امرأةٌ حقيقيَّةٌ أمْ مِن نسيجِ خَيالِ الرُّواةِ؟ ويستطردُ قائلًا: وإذَا كانتْ شخصيَّةً تاريخيَّةً، فمَا هُو الدَّورُ الذِي لعبتهُ فِي مجتمعِ المدينةِ؟ ثُمَّ يستطردُ قائلًا: «تُحدِّثنَا كتبُ الأمثالِ وبعضُ كُتبِ الأدبِ فِي التُّراثِ الإسلاميِّ عَن امرأةٍ كانتْ تُرضعُ كلَّ طفلٍ جديدٍ يُولدُ فِي المدينةِ، فاستحقَّتْ أنْ تُلقَّبَ بحوََّاء أُمِّ البشرِ»، بعضُ مؤرِّخِي المدينةِ قالُوا إنَّها مرضعةُ الخليفةِ عمر بن الخطَّاب، وقالُوا إنَّ أشرافَ المدينة كانُوا يجتمعُونَ فِي سقيفةِ حُبَّى يسألُونَهَا وهِي تُجيبُ.. وحُبَّى من نساءِ العربِ اللواتِي دخلنَ تاريخَهُم، وكُنَّ مِن أبطالِ أساطيرِهِم، لكنَّ قصصهَا وأخبارَهَا تناثرتْ في بطونِ كتبِ التَّراثِ، تارةً تظهرُ حكيمةً من حكيماتِ العربِ، وتارةً ناقلةً لـ»كلامِ القدماءِ وأهلِ البدوِ»، بعضُ الرُّواةِ يجعلُ «حُبَّى المدينيَّة» مِن المقتلماتِ، وبعضُهُم يقولُ: إنّها «كانتْ مِن كبارِ السُّحاقيَّاتِ».
ومِن الملاحظِ أنَّ جورج لمْ يذكرْ شيئًا عَن نسبِهَا، فعلَى أيِّ أساسٍ ينعتهَا بالمدينيَّةِ»؟، وكيفَ أرضعتْ سيدنَا عمرَ وقدْ وُلِدَ فِي مكَّة قبلَ الهجرةِ بأربعِينَ عامًا، وهِي كمَا قالَ: «إنَّها ظهرتْ في أواخرِ العصرِ الجاهليِّ، وإنَّها وُلدتْ وماتتْ فِي المدينةِ».
خلاصةُ القولِ: إنَّ حُبَّى شخصيَّةٌ مجهولةُ النَّسبِ والهُويَّةِ، مليئةٌ بالتناقضاتِ والتشابكاتِ، كمَا رسمَهَا الرُّواةُ العربُ، فشخصيَّتهَا أقربُ إلَى الأسطورةِ مِن الشخصيَّةِ الحقيقيَّةِ، فكيفَ يقرِّرُ الأستاذُ عيسَى أنَّها حقيقةٌ؟.
ونلاحظ أن المؤلف أقحم امرأة مجهولة النسب والهوية عرفت بالمجون، وجعلها هي التي سعت إلى دفن سيدنا عثمان مع وجود كبار الصحابة، وعلى رأسهم سيدنا علي بن أبي طالب ليؤكد زعمه الباطل أنهم أسهموا في قتله من جهة، وإمعانا في امتهان هذا الصحابي الجليل أحد المبشرين بالجنة وصهر رسول الله، وأنفق ماله في خدمة الإسلام والمسلمين فهو الذي جهز جيش العسرة.
* نعثلُ اليهوديُّ الذِي أتَي بهِ المؤلِّفُ، معَ إجلاءِ الرسولِ الكريمِ لليهودِ مِن المدينةِ لنقضِهم وثيقةَ المدينةِ التِي عقدُوهَا معَهُ، ليمعنَ فِي امتهانِ سيِّدنَا عثمانَ ليدفنَهُ هذَا اليهوديُّ فِي مقابرِ اليهودِ، دونَ غُسلٍ ودونَ الصَّلاةِ عليهِ، ليؤكِّدَ زعمَهُ الباطلَ باشتراكِ بعضِ الصحابةِ فِي قتلِهِ. وإنْ كانَ يهودُ المدينةِ تمَّ إجلاؤهُم فِي عهدِ النبيِّ بعدَ واقعةِ بني قريظة لنقضِهِم وثيقةَ المدينةِ، فمَن أينَ أتَى بهِ الأستاذُ عيسى ليدفنَ سيِّدنَا عثمانَ فِي مقابرِ اليهودِ؟.. وقدْ كذَّبَ هذهِ الفريةَ ابنُ كثيرٍ فِي البدايةِ والنهايةِ، أحدِ مصادرِ المؤلِّفِ التِي ذكرَهَا فِي تنويههِ، نقلًا عَن الحافظِ ابن عبدالبر: دفنَ الصحابةُ عثمانَ بحشِّ كوكبٍ. وكانَ قدْ اشتراهُ وزادهُ فِي البقيعِ، فقدْ قالَ السيوطيُّ: فِي تاريخِ الخلفاءِ صلَّى عليهِ الزبير بن العوام ودفنَهُ، وكانَ أوصَى بذلكَ إليهِ ودُفنَ فِي حشِّ كوكبٍ بالبقيعِ، وهُو أوَّلُ مَن دُفنَ بهِ.
نلاحظُ هنَا لَا ذكرَ لحُبَّى الماجنةِ، ولا لنعثلِ اليهوديِّ اللذَيْنِ أتَى بهمَا عيسَى لدفنِ سيِّدنَا عثمانَ؛ إمعانًا منهُ فِي امتهانِ الصحابيِّ الجليلِ عثمانَ بن عفّان أحدَ كتَّابِ الوحيِّ، حافظَ القرآنِ الكريمِ، وأحدَ العشرةِ المُبشَّرِينَ بالجنَّةِ، وصهرَ رسولِ اللهِ، وامتهانٌ لكلِّ مَا يحملُهُ هذَا الصحابيُّ الجليلُ مِن مكانةٍ كُبْرَى.
قراءتِي لمَا كتَبهُ مؤلِّفُ روايةِ «رحلةِ الدَّمِ» عَن الفتنةِ لمْ تنتهِ بعدْ، ولِي وقفاتٌ عندَهَا فِي مقالاتٍ أُخْرى لدحضِ مَا وردَ عنهَا مِن افتراءاتٍ مِن قِبلِ المؤلِّفِ.