Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

عندما يصبح الجنون الأخضر استثمارًا ذكيًّا

19

A A
في عالمنَا المتسارعِ اليوم، لم تعدْ الاستدامةُ مجرَّد كلمةٍ رنانةٍ تُستخدمُ فِي الاجتماعاتِ الكُبْرى أو تُكتبْ علَى صفحاتِ التقاريرِ السنويَّةِ للشركاتِ. بلْ أصبحتْ عنصرًا حاسمًا يُشكِّل مسارًا جديدًا للشركاتِ، لتتجاوزَ فكرةَ المسؤوليَّةِ الاجتماعيَّةِ التقليديَّةِ، وتتحوَّل إلَى إستراتيجيَّةٍ ربحيَّةٍ تعزِّزُ من النموِّ والاستدامةِ الماليةِ.

في الماضِي، كانتِ الشركاتُ التي تتبنَّى الاستدامةَ تُنظرُ إليهَا ككياناتٍ تسعَى فقطْ إلى تحسينِ سمعتهَا العامَّة أو الوفاءَ بالتزاماتٍ أخلاقيَّةٍ تجاهَ المجتمعِ والبيئةِ. لكنْ مَا تغيَّر هُو أنَّ هذهِ الشركاتِ باتتْ تدركُ أنَّ تبنِّي ممارساتِ الاستدامةِ يمكنُ أنْ يُحوِّل التحدِّيات البيئيةِ والاقتصاديةِ إلى فرصٍ استثماريةٍ هائلةٍ. وبخاصةٍ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، حيثُ تأتِي رؤيةُ 2030 كمنصةٍ لتبنِّي الاستدامةِ على نطاقٍ واسعٍ، كجزءٍ من التزامٍ بيئيٍّ، وخطةٍ إستراتيجيةٍ وطنيةٍ تهدفُ إلى تنويعِ الاقتصادِ، وتحقيقِ مستقبلٍ أكثر استدامةٍ.

مَا بدأ كتوجهٍ بسيطٍ نحو تقليلِ التأثيراتِ البيئيةِ للشركاتِ، أصبحَ اليومَ جزءًا من إستراتيجيَّةٍ واسعةٍ لتقليلِ التكاليفِ التشغيليةِ وزيادةِ الأرباحِ. على سبيلِ المثالِ، العديد من الشركاتِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ بدأتْ تتبنَّى حلولَ الطاقةِ المتجددةِ مثل الطاقةِ الشمسيةِ لتقليلِ تكاليفِ استهلاكِ الكهرباءِ. هذهِ التحركاتُ تؤدِّي إلى توفيرِ التكاليفِ، وتساهمُ أيضًا في تقليلِ الانبعاثاتِ الكربونيةِ وتعزيزِ سمعةِ الشركةِ كشريكٍ مستدامٍ.

أمَّا في القطاعِ البنكيِّ، فإنَّ فكرةَ «التمويلِ الأخضرِ» أصبحتْ تكتسبُ شعبيةً واسعةً، وذلكَ لأنَّ البنوكَ الآنَ ليستْ مجرد مؤسسات مالية تقليدية، بل تسعى إلى تمويل المشاريع التي تعزز الاستدامة، مثل مشروعات الطاقة المتجددة والبنية التحتية المستدامة. صحيح أن هذا التحول لصالح البيئة، لكنه أيضا استثمار ذكي يمكن أن يحقق عوائد مالية طويلة الأجل، حيث ينظر المستثمرون والمستهلكون بشكل متزايد إلى الاستدامة كعنصر أساسي في قراراتهم المالية.

تحت مظلة رؤية 2030، تهدف المملكة إلى تحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة، وهذا يعني أن الاستدامة لم تعد خيارًا، بل هي ضرورة لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. المبادرات الحكومية مثل «البرنامج الوطني للطاقة المتجددة» و»المشروعات الضخمة مثل مشروع نيوم» تُظهر التزام المملكة القوي بتبني الاستدامة كجزء أساسي من مستقبلها الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، وتحت قيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، تم إطلاق مبادرات رائدة مثل «مبادرة السعودية الخضراء» و»مبادرة الشرق الأوسط الأخضر»، وكذلك «الاقتصاد الدائري للكربون» و»برنامج الطاقة المتجددة». هذه الجهود تعكس رؤية شاملة تهدف إلى تقليل الانبعاثات الكربونية، تعزيز الطاقة المتجددة، وتنويع مصادر الاقتصاد، مما يعزز مكانة المملكة كقائد إقليمي وعالمي في مجال الاستدامة. هذه المشاريع العملاقة فضلا عن كونها استثمارات في البنية التحتية، تعد أيضا نماذج عملية لكيفية تحويل الاستدامة إلى محرك رئيسي للاقتصاد.

بالتأكيد، تبني الاستدامة يتطلب رؤية إدارية جديدة لان الشركات التي ترغب في تحقيق نمو مستدام عليها أن تفكر خارج الصندوق، وأن تدرك أن الممارسات التقليدية لم تعد كافية لتحقيق التميز في سوق متغير. فالشركات التي تستثمر في التكنولوجيا الخضراء وتقلل من الاعتماد على الموارد غير المتجددة، ستجد نفسها في موقع أقوى لتحقيق أرباح دائمة.

عليه، يمكن القول إن الاستدامة لم تعد مجرد موضوع ثانوي تُعنى به الشركات او القطاع المصرفي للحفاظ على صورتها، بل هي الآن عنصر حاسم لتحقيق ربحية مستدامة كما ان الشركات التي تتبنى هذا النهج ستجد نفسها ليس فقط متوافقة مع التوجهات العالمية، بل ستصبح أيضًا قادرة على تحقيق عوائد مالية متنامية، وفي الوقت نفسه، تساهم في بناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة.

فيصل خالد خلاف الغفاري

خبير الالتزام والحوكمه - القطاع المالي

alghefari@gmail.com

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store