تحتفِي شعوبُ العالمِ فِي الخامسِ مِن شهرِ أكتوبر منذُ عام 1994م، باليومِ العالميِّ للمعلِّمِ، وفاءً لهُ بحقوقِهِ علَى المجتمعِ، وتقديرًا لدورِهِ فِي تنشئةِ النشءِ، فِي هذَا اليومِ مِن كلِّ عامٍ، يجرِي التركيزُ علَى تقديرِ مسؤوليَّةِ المعلِّمِ، وتقييمِ أحوالِ وظروفِ عملِهِ، وسُبلِ تحسينهَا، فضلًا عَن إتاحةِ الفرصةِ، لإثارةِ القضايَا والمشكلاتِ التِي تواجههُ والعمل علَى إيجادِ حلولٍ لهَا.
يقولُ المثلُ اليابانيُّ: «ابتعدْ عَن المعلِّم سبعةَ أقدامٍ، حتَّى لَا تدوسُ علَى ظلِّهِ بالخطأِ»، مِن أجلِ ذلكَ أصبحتِ الأمةُ اليابانيَّةُ أمةً عظيمةً.
لقدْ ذكَّرنِي هذَا المثلُ بقصَّةِ شيخِ القراءةِ واللغةِ والنحوِ الإمامِ «أبي الحسنِ عليِّ بنِ حمزةَ الكسائي»؛ الذِي وُلدَ فِي إحدَى قُرَى الكوفةِ سنةَ 119هـ.
كانَ الإمامُ «الكسائيُّ» مربيًّا ومؤدِّبًا لابنَي خليفةِ المسلمِينَ «هارونَ الرشيد» وهُمَا «الأمينُ» و»المأمونُ»، وكانتْ لهُ جلالةٌ وهيبةٌ، وبعدَ انتهاءِ الدرسِ فِي أحدِ الأيامِ، قامَ الإمامُ «الكسائيُّ» مِن مجلسِ الدرسِ؛ فابتدرَ «الأمينُ» و»المأمونُ» إلَى نعليهِ كلٌّ يريدُ أنْ يقدمهمَا لهُ، فتنازَعَا فيمَن يفعلُ ذلكَ، ثمَّ تراضيَا أنْ يحملَ كلٌّ منهمَا نعلًا واحدةً، فيجعلهَا عندَ قدمِ الكسائيِّ! فبلغَ ذلكَ الخليفةَ «هارون الرشيد»، فدعَا الإمامَ «الكسائيَّ» يومًا فقالَ لهُ: مَن أعزُّ النَّاسِ؟ قالَ «الكسائيُّ»: مَا علمتُ أعزَّ مِن أميرِ المؤمنِينَ، فقالَ لهُ الرشيدُ: بلَى، إنَّ أعزَّ النَّاسِ مَن إذَا نهضَ مِن مجلسهِ تقاتلَ علَى تقديمِ نعليهِ وليَّا عهدِ المسلمِينَ، حتَّى يرضَى كلٌّ منهمَا أنْ يقدِّمَ لهُ واحدةً، فعندَهَا ظنَّ الكسائيُّ أنَّ ذلكَ أغضبَ الخليفةَ «هارون الرشيد»! فأعتذرَ الإمامُ «الكسائيُّ»، فقالَ لهُ الخليفةُ «هارون الرشيد»: لو منعتهمَا لعاتبتكَ فإنَّ ذلكَ رفعَ مِن قدرهِمَا».
هذهِ القصةُ العجيبةُ تكشفُ مقدارَ مَا كانَ للمعلِّمِ مِن هيبةٍ وإجلالٍ وتقديرٍ، ولا شكَّ أنَّ مردَّ هذهِ الهيبةِ إلَى أمرينِ اثنينِ: أولهما: شخصيَّةُ المعلِّم نفسهُ، ومَا لهُ مِن رسوخٍ علميٍّ، وامتيازٍ تربويٍّ. وثانيهمَا: أدبُ الطالبِ، وحسنُ تربيتِهِ، وتحلِّيه بالأخلاقِ الرفيعةِ.
ذكَّرتْني هذهِ القصةُ كمَا كانَ جيلنَا فِي السَّابقِ حفيًّا بأساتذتِهِ ومعلِّميهِ مبالغًا فِي إجلالِهِم وتقديرِهِم واحترامِهِم، حتَّى إنَّ أحدنَا ليمتنعُ عَن التحديقِ فِي أحدهِم إجلالًا واحترامًا وتقديرًا.
كمَا ذكَّرتْنِي بكوكبةٍ مِن الأساتذةِ العِظامِ الذِينَ درستُ وتتلمذتُ علَى أيديهِم، والذِينَ رأيتُ فيهِم نماذجَ مشرقةً للأستاذِ الأبِ والمربِّي، والمعلِّمِ (الموسوعيِّ).