بدأت حدوتة المسمار بالصوت الذي يرعب الجميع.. وهو صوت الحفارة الصغيرة الخبيثة التي تدور بسرعة تفوق أقصى سرعة لمحرك سيارة الفيراري «مونزا».. وبالرغم من براعة ودقة د. عمرو بخاري لتقليص الألم، والاهتزازات، والطقطقة التي انتقلت إلى جمجمتي، كانت عملية زرع المسمار في جمجمتي تمهيدا لتركيب السن الذي فقدت مقلقة بسبب مخيلتي.. تخيلت المسمار المعدني الصلد بحجم بزرة تمرة العجوى، وتخيلت ردة فعل حوالى ثلاثين تريليون خلية في جسمي لهذا الجسم المعدني الذي سيكون قاعدة للسن الجديد.. والمخطط أن تتم زراعته خلال الشهرين القادمين بمشيئة الله.. وتخيلت أن المعدن المستخدم مصنوع من عنصر التيتانيوم وهو «إمبراطور البكش» في عالم زراعة المعادن بداخل الجسم.. يخدع منظومة الدفاع بداخلنا من خلال خصائصه الكيميائية بطرق مختلفة.. ونتائج الخداع متميزة، فهي تتفوق على أفضل حيل أنظمة المخابرات العالمية، فهو يستوطن ويتعايش، وكأنه من مكونات الجسم البشري.. ولذا تجده على رأس الخيارات في زراعة الأسنان، والمفاصل الصناعية، والعظام.. ونعود لموضوعنا الأساس.. فالمسامير لا تقتصر على عالم الطب.. لن أنسى آخر زيارة لي لمصنع شركة بوينج عندما ذهلت لكمية المسامير المهولة المستخدمة في تركيب أجزاء الطائرات المختلفة.. فعلى سبيل المثال، ستجد في البوينج ٧٧٧ أكثر من ستين ألف مسمار من نوع خاص، فهي مجوفة، وخفيفة جدا، ومدببة، وتستخدم خلطة معدنية سرية.. وفي الواقع فيها أسرار أكثر من خلطة دجاج «البيك».. وأغلبها من عنصر الألمونيوم، وعليه رشات نحاس، وبعض العناصر الأخرى.. ويتم تركيبها وتثبيتها على بدن، وأجنحة، وذيول الطائرات، باستخدام مكائن هائلة. وتفتخر الشركة أن في صناعة طائراتها الجديدة البوينج ٧٨٧ تم تقليص عدد مسامير التثبيت؛ لأنها تستخدم ألياف الكربون الملصق في صناعتها، لتمنحها المزيد من القوة، ولتخفف وزنها، وتقلص تكاليف صناعتها، وتشغيلها، وصيانتها.
ولنترك عالم الطائرات ونعود لحياتنا اليومية، حيث نجد كمية المسامير الهائلة التي لا غنى عنها.. فضلا تأمل في عدد المسامير حولك الآن.. في النوافذ، والأبواب، والمفروشات، والأدوات الكهربائية، والساعات، ووسائل المواصلات.. ولا ننسى مشتقاتها من براغي، وصواميل، وأوتاد، بعضها مخروطية، ومسننة، وملولبة، وقلاووظية، وكلها جوهرية في حياتنا.. ومن روائع المسامير أنها خفية، كمعظم النعم الإعجازية في حياتنا، تعمل بطرق إبداعية فبعضها تعتمد على الاحتكاك، وبعضها تعتمد على «التعشيق» و»الشعبطة» على البيئة حولها، كما نجد المسامير بداخل الأخشاب. وأخيرا، ففي الحديث عن المسامير لابد من ذكر «الخوازيق»، كإحدى أهم النظم لتثبيت المنشآت العملاقة، حيث تكون إحدى آليات التثبيت بالذات في التربة، تجدها مدفونة في حفر نحيفة وعميقة جداً، وكأنها مسامير خرسانية وحديدية في جوف الأرض.
* أمنيـــــة:
هناك مسامير من نوع آخر، وهي مسامير الأذية التي تقفل فرص السلام.. ويشهد العالم اليوم على دمار تلك الفرص من خلال الحرب ضد المدنيين، ودمار البشر والعمران.. فضلاً أنظر ذكر الخوازيق أعلاه قبل 67 كلمة من هذه النقاط.. أتمنى أن يسجل التاريخ مقدار الافتراء الحاصل ضد السلام العالمي، وبالذات ضد الشعب الفلسطيني من خلال حملات الدمار اللا إنسانية، فقد ينسى البعض هذه التجاوزات مستقبلاً، والله شاهد على كل هذا، وهو من وراء القصد.