لقدْ عرفنَا فِي الحلقاتِ السابقةِ رؤيةَ إبراهيم عيسى لأسبابِ فتنةِ مقتلِ سيدنَا عثمان بن عفَّان، وأحداثهَا وشخوصهَا، وعندَ قراءاتنَا لمَا كتبهُ بعضُ المستشرقِينَ فِي ذاتِ الموضوعِ نجدُ وكأنَّ الأستاذَ عيسى قدْ نقلهَا عنهُم، معَ أنَّه يدَّعي أنَّ مصادرَهُ الطبقاتُ الكُبْرى لابن سعد، والكاملُ في التَّاريخِ للطبريِّ، والبداية والنهاية لابنِ كثير، وأسدُ الغابةِ لابن الأثير، وسيرُ أعلامِ النبلاءِ للذهبيِّ، وصحيحُ البخاريِّ، ولمْ يذكرْ ولَا مرجعًا واحدًا لمستشرقٍ، ولنقرأ معًا مَا كتبهُ المستشرقُ اليهوديُّ الفرنسيُّ كلود كاهن عَن فتنةِ مقتلِ سيدنَا عثمان: تعرَّض عثمان لتهمةِ محاباةِ أقربائِهِ، كمَا تعرَّض لمناهضةٍ متزايدةٍ مِن قِبلِ أولئكَ الخصومِ، وهِي زوجةُ الرسولِ التِي مازالتْ -آنئذٍ- فِي ريعانِ شبابِهَا، وكانَ عليٌّ أيضًا وهُو ابنُ عمِ النبيِّ وصهرُه خصمًا لعثمانَ، وكذلكَ عمرو بن العاص، وكانَ لَا مفرَّ مِن قيامِ التحالفِ بينَ مبعوثِي هؤلاءِ وأولئكَ مِن الخصومِ، وأدَّى هذَا التحالفُ إلى اغتيالِ الخليفةِ أثناءَ صلاتِهِ».
فهنَا نجدُ إبراهيم عيسى ردَّدَ مَا ذكرهُ هذَا المستشرقُ، مِن حيثُ اتِّهامِ أُمِّ المؤمنِينَ السيدةِ عائشة، وسيدنَا عليٍّ بن أبي طالب باشتراكهمَا فِي مناهضةِ سيدنَا عثمانَ، وفِي الفتنةِ، رغمَ أنَّه لَا يخفَى عَن الجميعِ أنَّ السيدةَ عائشة خرجتْ إلى صفين مطالبةً بدمِ قتلةِ سيدنَا عثمانَ، أمَّا سيدنَا عليُّ فقدْ جعلَ ولدَيه الحسنَ والحسينَ يحرسانِ بيتَ سيدنَا عثمانَ لحمايتِهِ مِن المتمردِينَ، وعندمَا عرضَ عليهِ متمرِّدُو مصرَ مبايعتَهُ علَى الخلافةِ بإيعازٍ مِن عبدالله بن سبأ نهرَهُم، ورفضَ مبايعتَهُم لهُ.
ونجدُ كلود كاهن لمْ يذكرْ أنَّ عبدالله بن سبأ وراءَ الفتنةِ، وكذلكَ عيسى، بلْ أخفَى الأخيرُ علاقةَ عبدالله بن سبأ بإثارةِ الفتنةِ، وأنَّ مَن قتلُوا سيدنَا عثمانَ مِن رجالِ ابن سبأ وأتباعِهِ، ورغمَ أنَّ الطبريَّ ذكرَ هذَا، وهُو من ضمنِ مراجعِهِ، ولكنَّ عيسى تجاهلهُ؛ لنهجهِ منهجَ المستشرقِينَ الانتقائيَّ فِي كتاباتِهِم عَن الإسلامِ والسيرةِ النبويَّةِ والصحابةِ -رضوان الله عليهم-، فيأخذُونَ بالرواياتِ الضعيفةِ، ويتركُونَ الرواياتِ الصحيحةَ، وهنَا نجدُ عيسى تفوَّق عليهِم باقتطاعِهِ مِن الروايةِ الجزءَ الذِي يوافقُ هواهُ، فهُو الذِي ذكرَ أنَّ تاريخَ الطبريِّ ضمنَ مراجعِهِ، والطبريُّ أوردَ عدَّةَ رواياتٍ عَن دفنِ سيدنَا عثمانَ، منهَا روايةٌ للواقديِّ التِي ذكرَ فيهَا أنَّ سعد بن راشد حدَّثه عَن صالح بن كيسان أنَّه قالَ: «لمَّا قُتل عثمانُ قالَ رجلٌ: «يُدفنُ بديرِ سلعِ مقبرةِ اليهودِ..» فأخذَ عيسى هذَا الجزءَ مِن الروايةِ، وتركَ باقيهَا الذِي جاءَ فيهَا: «فقالَ حكيم بن حزام: واللهِ لا يكونُ هذَا أبدًا، وأحدٌ مِن ولدِ قصي حيٌّ حتَّى كادَ الشرُّ يلتحمُ، فقالَ ابن عديس البلوي: «أيُّهَا الشيخُ ومَا يضركَ أينَ يُدفنُ؟»: فقالَ حكيم بن حزام: فلَا يُدفنُ إلَّا ببقيعِ الغرقدِ، حيثُ دُفنَ سلفهُ وفرطهُ، فخرجَ بهِ حكيم بن حزام فِي اثني عشر رجلًا، وفيهم الزبير، فصلَّى عليهِ حكيم بن حزام.
هذهِ روايةُ الواقديِّ، أخذَ منهَا الأستاذُ إبراهيم جملةً واحدةً لتخدمَ هدفَهُ، وتركَ باقيهَا.. وهذَا ليسَ بمستغربٍ علَى إبراهيم عيسى، فهُو ينهجُ نهجَ أستاذِهِ وقدوتِهِ ومثلِهِ الأعلَى، وقدوةِ زملائِهِ مِن أعضاءِ مجلسِ أمناءِ مركزِ «تكوين»، وهم: يوسف زيدان، فراس الحوَّاس، وإسلام بحيري، حتَّى أطلقُوا علَى المؤتمرِ الأوَّلِ لمركزِهِم «خمسونَ عامًا علَى رحيلِ طه حسين.. أينَ نحنُ مِن التجديدِ اليومَ؟»، والتجديدُ الذِي يعنونهُ هُو حذوُ حذوَ طه حسين فِي نقلِ الفكرِ الاستشراقيِّ بمَا يحملهُ مِن التشكيكِ فِي كتابِ اللهِ أنَّه مِن عندِ اللهِ والتشكيكِ فِي السُّنَّةِ والسيرةِ النبويَّةِ، والنَّيلِ مِن النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ومن صحابتِهِ -رضوان الله عليهم-، وهذَا مَا يمثِّلهُ فكرُ قدوتِهِم طه حسين، الذِي لا يجرؤ أحدٌ علَى كشفِ حقيقةِ فكرِهِ، وإلَّا يُتَّهم بالتكفيريِّ المُتخلِّفِ، في وقت إبراهيم عيسى سخرَ مِن القرآنِ الكريمِ فِي روايةِ رحلةِ الدَّمِ، كمَا سخرِ مِن سيدنَا عثمانَ بقولهِ: «عثمان باشا»، وقولهِ لسيدنَا عثمانَ علَى لسانِ محمد بن حذيفة: «لقدْ أضعتَ سُنَّةَ نبيِّكَ، كمَا أضعتَ خاتمَهُ»، ومعَ هذَا نجدُ إسلام بحيري يصفُ إبراهيم عيسى بالمفكِّرِ العظيمِ!.
ومما ينبغي التنويه إليه، أنني سأذكر أسماء الرباعي من أعضاء مجلس أمناء مركز تكوين الفكر العربي مجردة من لقب دكتور، أو أستاذ، وذلك لأن جميعهم، مع أيقونتهم طه حسين لم يُصلوا على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- (إلا نادراً، محتذين حذو المستشرقين)، فلماذا لا يُصلون عليه؟ إن كان الله -جل جلاله- وملائكته يصلون عليه، وأمرنا الله بالصلاة عليه (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فمَن هُم حتَّى لَا يُصلُّونَ عليهِ؟.
كمَا أنَّهم لا يترضُّونَ علَى صحابةِ رسولِ اللهِ، فيذكرُونَ أسماءَهُم مجرَّدةً كأيِّ واحدٍ مِن النَّاسِ معَ علوِّ قدرهِم ومكانتِهِم.
فإنْ كانُوا لا يحترمُونَ خاتمَ الأنبياءِ والمرسلِينَ، وصحابتهُ، فكيفَ نُجلُّهم ونوقِّرهُم، ونطلقُ عليهِم أساتذة ودكاترة؟!.
ولتتضحَ لكُم منابعُ فكرِ دعاةِ الإصلاحِ الدينيِّ من «تنويريي مركزِ تكوين الفكرِ العربيِّ»، سأضعُ فكرَ «طه حسين»، أحدَ رموزهِم، تحتَ المجهرِ فِي مقالاتٍ مقبلةٍ -إنْ شاءَ اللهُ-.
وقفات عند رؤية «عيسى» لأحداث وشخوص رواية «رحلة الدم» (2)
تاريخ النشر: 09 أكتوبر 2024 23:55 KSA
A A