Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

كرســي

A A
سبحان الله أن الكراسي من النعم التي لا نشعر بروائعها بالرغم أنها تُغيِّر حياتنا. وبعضها تهيمن على أحاسيسنا هيمنة مذهلة.. طرأت الفكرة على بالي أثناء جلوسي على الكرسي المريح جداً في عيادة الأسنان.. بالرغم من مستوى الراحة، والنظافة، والدقة الفنية وجدت نفسي في حالة قلق، وهو حال معظم البشر على هذا الكرسي، وكأنه يُولِّد جرعات هرمون الأدرينالين المسؤول عن «الفلسعة» أو الهروب السريع بداخلنا.. وأطياف تأثيرات الكراسي متعددة، فكراسي العديد من المسؤولين تُغيِّر شخصياتهم منذ لحظة جلوسهم إلى وقت مغادرتهم للمنصب، وبالذات في تلك المناصب التي يتمسك بها الناس بالكراسي لأطول مدة ممكنة، علماً بأنهم يتمتعون بخصال، وسمات مختلفة عن تلك التي تمليها الكراسي.. ولو بحثت في تاريخ الكراسي التي غيّرت مجرى التاريخ، ستجد أن العديد منها كان مقروناً بتاريخ العمران.. وستجد أن معظم كبار المعماريين صمموا كراسي لتعكس فلسفتهم التصميمية بشكل أو بآخر، ومن أخرها هي الكرسي التي صممته المعمارية العالمية العراقية الراحلة «زها حديد» واسمه كرسي «زي»، وقبلها كان كرسي «برشلونة» للمعماري «ميس فندر رو»، وكرسي «إيمز»، و»ويجل» لفرانك جيري، و»ل سي 2» لكوربوازييه، وكرسي البيضة للمعماري «جاكبسون».

وعموما ستجد أن الكراسي الأكثر راحة تاريخياً كانت لمن هم في مناصب القوة، ولكن في بعض الأحيان نجد الاستثناءات التي تعكس «ديمقراطية الراحة»، وبعض الطرائف الأخرى.. في الحضارة الرومانية كانت هناك كراسي مميزة بشكل حرف «إكس» اللاتيني.. انتشرت في استخدامات الدوائر الحكومية بكثرة للمسؤولين والمراجعين، ولم تكن مريحة لكي لا يطول المراجع ولا المسؤول في جلستهما.. وأتذكر أيضاً أن إحدى الجهات التي عملت معها تبنت تلك الفكرة، فكانت كراسي قاعة الاجتماعات غير مريحة بهدف أن لا تطول فترة اللقاءات.. وبصراحة كانت فكرة ناجحة.. واليوم نجد أن الكرسي الذي يتربع على امبراطورية الكراسي الناجحة والأكثر رواجا في العالم هو كرسي «المونوبلوك» أو «القطعة الواحدة» الذي تم تصميمه وتصنيعه قبل حوالي أربعين سنة.. سبب نجاحه هو قوته، وسهولة رصته وترتيبه، وتصنيعه، وتنظيفه، وخفة وزنه.. وفوق كل هذا فهو من الكراسي المريحة جدا، وتكلفة تصنيعه وشرائه منخفضه جدا.. تعادل تقريبا تكلفة وجبة دجاج «الطازج».. ولا يحتوى على براغي، أو مسامير، أو صمغ.. قمة الإبداع.. ولو بحثنا في أغرب الكراسي سنجد أن بعض منها تم بيعها بأسعار خيالية، وعلى رأسها كرسي «التنين» الذي تم بيعه بالمزاد عام 2009 بمبلغ يعادل حوالي تسعين مليون ريال، نظرا لقيمته التاريخية ومكوناته الثمينة.

ولكن بعيدا عن كل هذا، سنجد أن أكثر الكراسي تعقيدا، وأعلاها تكلفة هي كراسي «الطرد».. والمقصود هنا هي الكراسي «القاذفة» المستخدمة للهروب من الطائرات العسكرية في حالات الطوارئ.. عادة تفوق أسعارها المليون ريال نظراً لمكوناتها، ومنظومتها الهندسية المذهلة، فهي تحتوي على مواد متفجرة، وصواريخ صغيرة، وأذرع ميكانيكية، ومساعدات كهربائية، وأجهزة توقيت وتحكم.. كلها مبرمجة لقذف الكرسي والطيار بسرعة هائلة بعيداً عن الطائرة خلال فترة أقل من ربع الفترة الزمنية لقول «الحمد لله».. وتتفاخر أشهر الشركات المصممة والمصنعة لتلك الكراسي وهي شركة «مارتن بيكر» الإنجليزية أنها أنقذت حياة 7730 طيار ممن استخدموا آليات الهروب إلى تاريخ كتابة هذه الكلمات.

* أمنيــــــة:

في الصور الحزينة التي نشهدها يومياً لسكان غزة وبيروت المدنيين، لا تظهر فيها الكراسي بتاتاً لتذكرنا بعناء السكان. ومن جانب آخر، فتجمعات متخذي القرار لاستمرار الحرب مليئة بالكراسي الفاخرة.. أتمنى أن تنقلب الآية بالكامل ليشعر كل من يدعم تأجيج الحرب والدمار بتكاليفها الحقيقية، والله يجبر مصائب الأبرياء، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store