حدَّثنا مصباح بن أبي موسى، وهو قابع يتلوَّى كالقرفصاء، ونحن كالفراش حول مشكاة، قال: «كنتُ يومًا على أعتاب باب يقوم على توجيه كريم، فظننته بابًا مفتوحًا كأبواب الأمراء؛ وهم يعمرونها بالرعاية والحب، ويكسونها بالود وحسن الرفادة.
هكذا ظننتُ بسوء تقدير منِّي، وحسبتُ بسذاجة فطرتي أنَّ الأمر بذلك اليُسر والتَّيسير، وتلك البساطة والتَّبسيط، وأنَّ باب الدخول لي، ولأمثالي ممهَّد الولوج، ممهور العبور؛ فعرفتُ بعد حين أنَّ عقلي الحكيم لا يزال بفطرته، وحسن براءته.
فكان؛ أنْ استقبلني بادئ الأمر، رجل كبير السن، متوسط الطول، ضعيف البنية، لاكته الحياة لوكًا، وطحنته معركة الحياة طحنًا، حتى استوى على عتبة هذا الباب بحرص منه للتقرب إلى منصب صاحب الباب.
فلمَّا قرَّبت منه، وإذا به بلحية خفيفة، لم يعد لأثر الشعر الأسود بقيَّة باقية، ولا لملامحه سورة بائنة، أو علامة بارزة، مع قسمات تطفح بآيات النفاق والرِّياء، حتى استحالت واضحة بادية، تكاد أنْ تخرج من بين أوصاله وأوداجه، بعدما سرت إلى عروقه، واستقرَّت في أمخاخه.
فقلتُ في نفسي، إنَّها (والله يا مصباح) لعلامات شؤم، ومنذرات سوء، فربما أكتالُ من هنا كالقفة المهملة، وأطرد من عند الباب سوء طردة، فأخذتُ على نفسي عهدًا حازمًا أنْ ألاطفه بالعبارات المنمَّقة، وأحسن إليه بالكلمات الرقيقة، وأوزِّع له كيلًا عظيمًا من الابتسامات المعهودة؛ فلعل الرجل يحن عليَّ بالدخول وبالولوج يتلطف، ويقول فيَّ قولًا عند صاحب الباب، فيشفع لي بقضاء حاجتي وتلبية مطلبي.
وأنا على تلك الحال، من نثر الابتسامات، والتلطُّف في العبارات، وتصيُّد الجُمل المرسلة إليه، بعد أنْ بنيتها على خير بناء، ومهرتها كأجمل قوام، فغدت كالشَّهد والظيان، وأصبحت مبهَّرة بالطيب والريحان.
ثم، وبعد مماحكة وملاطفة، أذن لي بالدخول مع ممانعة ومماطلة، قائلًا لي، وبصوت لا يخلو من زراية واحتقار: (خلفي.. تعالَ)، وكل عظمة منِّي تنتفض وتهتز وترتجف، فلمَّا فتح لي الباب ودلفتُ على (صاحب الباب)، فإذا بخطواتي إليه تأنُّ خاملة متثاقلة.. فلم أمهل قدمي لهذا الحمل الثقيل، فجررتها جرًّا حتى وقفت على منضدته العريضة كالمسمار، فلمَّا هممتُ بالدفع لما جئت إليه، سمعتُ الحاجب يهمس في أذن (صاحب الباب) همسًا خفيفًا لا أكاد أستبينه، وفي لمحة خاطفة غرب، ومن على كرسيه استدار وأفل، فعجلتُ إليه بالبحث والمراقبة والتلصُّص، فإذا حاشيته يلتفُّون حوله كالعصافير الجائعة، فذاك يلحفه عباءته، والآخر يسوِّي عمامته، والثالث يفتح له بابه، والخامس كالبرق يجهِّز مركبه.
وأنا على تلك الحال من الذهول والانتصاب، فنظرتُ إلى عريضتي برجاء أنْ تُقضَى بجرَّة ريشة أو مهاتفة، فعصرتها في كفِّي عصرًا كالماء من الخرقة البالية، ومزَّقت ما بها من أرواح راجية، وعيني بالدمع تفيض، وبالسخافة تغيض، وخرجت وظلي كالمسمار عند منضدة صاحب الباب..!!».