عنوان المقال هو جمع «دافور»، وهو المقود التاريخي الذي كان يستخدم في جميع المطابخ أيام زمان.. وكان يتميز بكمية الاحتراق المستمرة التي لا تنضب إلا عند انتهاء الوقود.. وكان هذا أحد أسباب استخدام المصطلح للرمز للشخص الذي يدرس بلا ملل أو كلل ليتفوق، ويحرق كميات هائلة من الطاقة.. وعبر التاريخ كانت هناك مجموعات من الدوافير لفئات مهنية مختلفة، اخترت لكم اليوم منها إحدى أغرب الأمثلة وهي مثال السيدات في الطيران والفضاء.. قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 كان إنتاج قطاع الطيران في الولايات المتحدة أقل من ألف وخمسمائة طائرة سنوياً.. وبسبب الحرب ارتفع الإنتاج في عام 1943 ليلامس السبعين ألف طائرة سنوياً.. أكثر من ثلاثة أمثال الإنتاج الألماني، وأكثر من خمسة أمثال الإنتاج الياباني.. وأصبح قطاع تصنيع الطيران هو أكبر صناعة في العالم، وأصبحت لغة الحرب جوية بدون أي شك. وفي تلك الأيام، لم تتوفر الحواسيب الإلكترونية، ولا حتى الكهربية، فكانت معظم الحسابات يدوية.. وفي عالم تصميم وتصنيع الطائرات توجد تيارات، بل وبحار، ومحيطات من الحسابات.. قوة بدن الطائرة، وقدرة رفع الأجنحة والأسطح الأخرى، ومقدار الدفع، ورفع الحمولة، ومقاومة الهواء، وحدود المناورات، ووزن التجهيزات الكهربائية والهيدروليكية، واستخدام الوقود، ومئات الآلاف من الحسابات الأخرى، ومعظمها كانت يدوية باستخدام العقول، والأقلام والأوراق.. فضلاً تخيل كم «كشكول» من الحسابات لكل طائرة، وكم صفحة، وكم معادلة، ومعظمها من العمليات الرياضية التي تتطلب كراتين إسبرين.. تفاضل وتكامل، ولوغاريثمات، وحسابات مثلثات، واستاتيكا، وديناميكا، واحتمالات، وبحوث عمليات، وتحليلات عددية.. وأكثر بكثير.. ولإنجاز هذه المتطلبات الضرورية الصعبة، تم توظيف آلاف الحواسيب الآدمية.. والمقصود هنا هو الموظفون المسؤولون عن الحسابات لدعم الفرق الهندسية.. وكان معظم «الحواسيب» من السيدات.. يعني تخيل كل طائرة تخرج من المصنع وراءها آلاف ساعات الحسابات المعقدة ومعظمها من السيدات العاملات من وراء الكواليس.. وبعد انتهاء الحرب مباشرة، بدأ عصر الفضاء حول العالم بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. وفي أمريكا، استمر عمل الحاسبات بلا ملل أو كلل في القطاعين المدني بقيادة اللجنة الوطنية الاستشارية للطيران «ناقا» National Advisory Committee for Aeronautics والتي تحولت عام 1958 إلى إدارة الطيران والفضاء الأمريكية «ناسا».. ولم تتغير أهمية الحاسبات الآدمية بالرغم من تقليص أعدادهن في عالم الفضاء والطيران بسبب تقليص إنتاج الطائرات..
والسؤال المنطقي الذي يخطر علي بال الجميع هو: لماذا احتكرت السيدات هذا المجال.. وهناك عدة أسباب، ومنها قبولهن بالرواتب الأقل في تلك الأيام بسبب عدم تقبل دخول السيدات في عالم الهندسة، والتحيز ضد السيدات في المجالات الفنية.. هذا بالرغم من قدراتهن المتميزة في تجميع، وتنظيم، وتبويب، وفرز، وترتيب، وتصنيف الحسابات المعقدة المختلفة.
* أمنيـــــة:
تاريخ الحاسبات الآدمية في قطاعي الطيران والفضاء لم يدون بالشكل الكافي واللائق عالمياً، وهؤلاء السيدات يستحققن الذكر التاريخي والتكريم.. ولكن هناك ما هو أهم بالنسبة لنا.. فضلاً أنظر في روائع تاريخ العالمات في التاريخ الإسلامي، وستجد أمثلة مذهلة والكثير منها مدونة بسلاسة ووضوح في كتاب أخي الكريم البروفسور سليم الحسني عن العالمات في الحضارة الإسلامية، ومنهن على سبيل المثال السيدة «فاطمة المجريطية»، التي قامت مع والدها بتصحيح جداول الخوارزمي الفلكية، وبتصحيح التقاويم، وحساب مواضع القمر والشمس والكواكب بدقة ومثابرة رائعة في القرن العاشر الميلادي في الأندلس.. والسيدة «مريم الأسطرلابية» التي كانت تصنع الأسطرلاب في حلب في القرن العاشر أيضاً.. وللعلم فالأسطرلاب هو مرادف «الآي فون» لعلماء الفلك في تلك الحقبة الزمنية. وهناك المزيد في مقالات قادمة بمشيئة الله، وهو من وراء القصد.