قبلَ أيَّامٍ، أعدتُ متابعةَ لقاءِ نائبِ وزيرِ البلديَّاتِ والإسكانِ، إيهاب الحشَّاني، فِي بودكاست «سقراط»، والحقيقةُ أنَّ هذَا اللقاءَ سلَّطَ الضوءَ علَى التحدِّياتِ الكبيرةِ التِي تواجهُ المدنَ السعوديَّة اليومَ، مقدِّمًا رؤيةً شاملةً تتجاوزُ الحلولَ المؤقَّتةَ، وتبحثُ فِي الجذورِ.
مَا أثارَ الانتباهَ فِي هذَا الحوارِ، هُو البُعدُ العميقُ الذِي يتطرَّقُ إلَى كيفيَّةِ تحويلِ التحدِّياتِ إلَى فرصٍ تنمويَّةٍ، وأهميَّةِ الحوكمةِ فِي هذَا التحوُّلِ.
التحدِّياتُ التِي تواجهُهَا المدنُ السعوديَّةُ ليستْ وليدةً اللحظةِ، بلْ تعودُ إلَى فترةِ السبعينيَّاتِ، وهِي مرحلةٌ شهدتْ نموًّا سريعًا تجاوزَ الخططَ المرحليَّةَ.
المدنُ نمتْ بشكلٍ أسرعَ ممَّا كانَ مُتاحًا، ممَّا أدَّى إلَى تعقيداتٍ بنيويَّةٍ وحضريَّةٍ.
هذَا الاعترافُ بالماضِي هُو خطوةٌ جريئةٌ لفهمِ الحاضرِ، ولكنَّ الحشَّانيَّ لمْ يتوقَّفْ عندَ هذَا الحدِّ، فالتَّحدِّي الحقيقيُّ لَا يكمنُ فقطْ فِي تشخيصِ المشكلةِ، بلْ فِي إيجادِ حلولٍ مُستدامةٍ تنظرُ بعيدًا إلَى المستقبلِ.
المفهومُ المحوريُّ الذِي ركَّز عليهِ الحشَّانيُّ هُو «الحوكمةُ». المدنُ ليستْ مجرَّد مساحاتٍ ماديَّةٍ، بلْ هِي كائناتٌ تنموُ وتتطوَّرُ معَ الزَّمنِ. ولذلكَ، فإنَّ أيَّ حلٍّ جذريٍّ يتطلَّبُ تفكيرًا طويلَ الأمدِ وتخطيطًا دقيقًا. الحوكمةُ، فِي هذَا السِّياقِ، تعنِي اتِّخاذَ القراراتِ بطريقةٍ محوكمةٍ ومنهجيَّةٍ؛ بهدفِ اجتثاثِ المشكلاتِ مِن جذورِهَا، وليسَ مجرَّد التَّخفيفِ مِن آثارِهَا. مثال مكَّة المكرَّمة، حيثُ تمَّ تطويرُ شوارعِ تقلِّلُ مِن حرارةِ الأرضِ؛ لراحةِ الحجَّاجِ والمُعتمرِينَ، هُو أحدُ النماذجِ التِي تعكسُ هذَا التفكيرَ المُستدامَ الذِي يراعِي تفاصيلَ الحياةِ اليوميَّةِ.
لكنْ مَا يُلفِت الانتباهَ حقًا فِي حديثِ الحشَّانيِّ، هُو التأكيدُ علَى دورِ المواطنِ كـ»شريكٍ أوَّل» فِي الرقابةِ وتحسينِ الخدماتِ. هذَا التحوُّلُ مِن دورِ المتلقِّي إلَى دورِ المشارِكِ يعكسُ نضجًا فِي مفهومِ الإدارةِ الحضريَّةِ. المواطنُ هُنَا لمْ يعدْ مجرَّد مستفيدٍ مِن الخدماتِ، بلْ جزءٌ أساسٌ فِي تحسينِهَا، مِن خلالِ المشاركةِ فِي الرقابةِ علَى جودةِ الخدماتِ، باستخدامِ التكنولوجيَا المبتكرةِ، مثل سيَّاراتِ رصدِ جودةِ الطُّرقِ. هذهِ المبادراتُ استهدفتْ تحسينَ البنيةِ التحتيَّةِ، ومثَّلتْ خُطواتٍ نحوَ إشراكِ المجتمعِ فِي عمليَّةِ التنميةِ.
وفيمَا يتعلَّقُ بالتشوُّهِ البصريِّ، تناولَ الحشَّانيُّ هذهِ القضيَّةَ بشكلٍ منهجيٍّ، مشيرًا إلَى أنَّ هناكَ 43 عنصرًا مِن التشوُّهِ البصريِّ، وكل منهَا يتطلَّبُ طريقةَ معالجةِ مختلفةً، وكانتِ الحوكمةُ الممنهجةُ هِي المفتاحُ للتَّعاملِ معَ هذهِ الظَّاهرةِ بطريقةِ إبداعيَّةٍ ومُستدامةٍ.
إضافةً إلَى ذلكَ، كانتِ الإشارةُ إلَى توجيهِ سموِّ وليِّ العهدِ -حفظَهُ اللهُ- بأنْ يكونَ لكلِّ مدينةٍ فِي المملكةِ مخططٌ شاملٌ يأخذُ فِي الاعتبارِ هويتهَا. هذَا التوجُّهُ الإستراتيجيُّ يؤكِّدُ علَى أهميَّةِ التخطيطِ الشموليِّ، الذِي يركِّزُ علَى البنيةِ التحتيَّةِ، ويحافظُ علَى الهويَّةِ الثقافيَّةِ والتاريخيَّةِ لكلِّ مدينةٍ؛ لأنَّ المدنَ ليستْ مجرَّد كتلٍ مِن الإسمنتِ، بلْ هِي أماكنُ تحملُ فِي طيَّاتِهَا تاريخًا وثقافةً وهويَّةً، وتخطيطهَا المستقبلِي يجبْ أنْ يعكسَ هذهِ العناصرَ.
فِي نهايةِ المطافِ، مَا شاهدتُهُ فِي هذهِ الحلقةِ يؤكِّدُ أنَّنَا أمامَ رؤيةٍ طموحةٍ لمستقبلِ المدنِ السعوديَّةِ. رؤيةٌ تقومُ علَى الحوكمةِ المُستدامةِ، والابتكارِ التكنولوجيِّ، والشراكةِ الفعَّالةِ بينَ الدولةِ والمواطنِ. رؤيةٌ تهدفُ إلى بناءِ مدنٍ مستقبليَّةٍ تنبضُ بالحياةِ، مدنٌ تتمتَّعُ بهويَّةٍ ثقافيَّةٍ متجذِّرةٍ، وبنيةٍ تحتيَّةٍ حديثةٍ، ومجتمعٍ مشاركٍ فِي صناعةِ التَّنميةِ.