تحدثت في المقال السابق عن الندوة التي أقيمت عن (عالمية المكانة) للمسجد الحرام، والتي كانت برعاية الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، ومؤسسة جائزة الفوزان، ومؤسسة المداد للثقافة والتراث، والتي جاءت لتعزيز دور المساجد في المجتمع من أجل الحفاظ على الهوية العمرانية، ومشاركة ثقافة المملكة وتراثها الحضاري الإسلامي مع دول العالم.
وجاء المؤتمر محققاً لعالمية المسجد وعمارته لمختلف دول العالم؛ حيث ناقش خلال يومين متتاليين وأربع جلسات علمية، حوالى 18 ورقة علمية من شخصيات من دول إسلامية؛ لها باعٍ طويل وعمق تاريخي في بناء المساجد مثل: تركيا حيث شارك الباحثان المعماريان أحمد غن، والباحث أ. د. محمد أوغلو من جامعة إسطنبول للتقنية، وكانت عن الأدوار المحتملة للمساجد في فترة ما قبل الكوارث وما بعدها.
كما كانت هناك مشاركات من معماريين من بنغلاديش والأردن وفلسطين. ومن السعودية كانت ورقة د. عبدالله القاضي عن مساجد المواقيت المكانية؛ ودورها في تعزيز التواصل مع الحجاج والمعتمرين، فهي ليست مجرد حيز مكاني، ولكن مشاعر وروحانية وتقديم خدمات جمة.
كما كانت ورقة أ. د. عدنان عدس شاملة لعمارة مآذن الحرم المكي الشريف من القرن الثاني إلى نهاية القرن العاشر الهجري، والتي أظهرت تطور منائر المسجد الحرام والتغير في التصميم والأجزاء والعناصر ونسب الارتفاع بما يخدم الجوانب الاجتماعية والدينية.
ولست بصدد تناول الأوراق، ولكن ما أريد التركيز عليه هو أهمية المسجد من كافة النواحي، الاجتماعية والثقافية والحضارية.. فالمسجد ليس صرحاً دينياً فقط بل هو - وخاصة وقت الأزمة - أكثر ما يكون داعماً نفسياً واجتماعياً للناس وتهدئتهم، وربطهم بقضاء الله وقدره، ورفع روحهم المعنوية؛ بزيادة الاتصال بالله والعبادة.
بل يقوم بدور عظيم في الإيواء للمتضررة منازلهم، وكذلك إمدادهم بوسائل العيش؛ حيث المساعدات من المنظمات الإنسانية التي تتلقاها عادة المساجد، على أن تكون البنى التحتية للمسجد قوية، وخاصةً التقنية، ومنها استخدام تقنية BLE/ Bluetooth low energy والذي يوفر تقنية لاسلكية للعديد من تطبيقات إنترنت الأشياء؛ الأكثر أهمية، ومنها الرعاية الصحية والخدمات اللوجستية.
كما تنوعت الأوراق ما بين زخارف الحرم المكي الشريف وحكمة العمارة الإسلامية المبكرة في الممارسة المعاصرة، وقد كانت المفاجأة وجود صور بديعة عن فن العمارة الإسلامية للمساجد في بنغلاديش، وأخرى في اليابان، وفي إندونيسيا.. وهذا أكبر دلالة على انتشار الحضارة الإسلامية وأخذهم من فنون العمارة الإسلامية وتطويرها وزخرفتها بطابع حسب المنطقة الجغرافية وتوفر المواد الخام فيها.
ولأن العمارة وفنونها نتاج حضاري يبرز الاهتمامات الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمعات؛ فإن عمارة المسجد؛ كما أبرزتها أحد الدراسات بأنها: ثوابت عقائدية من حيث الاتزان والوسطية والتوجيه.
وهناك ثوابت جمالية تشكيلية من حيث الجمال والبساطة، وثوابت اقتصادية من حيث الاستدامة والاعتدال وعدم المبالغة في التكلفة، وثوابت اجتماعية، من أهمها التعاون والتواصل.
ومن أجمل الكتب التي وزعت مجاناً، وهي الحاصلة على جائزة الفوزان، كتاب (لتعارفوا)، وهو رؤية معاصرة للعمارة المسجدية للمؤلفين: مشاري عبدالله النعيم، ووائل السمهوري، والذي جاء بـ ٤٠٨ صفحات؛ والعنوان مشتق من الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)؛ والذي حمل الكثير من المفاهيم عن أهمية المسجد في الحضارة الإسلامية، ونماذج من مساجد في شتى أنحاء العالم الإسلامي، ووصف تحليلي للمسجد من الخارج والداخل، وأن استخدام الضوء الطبيعي يعزز من الشعور بالروحانية والقدسية في المساجد، والعلاقة بين ما هو دنيوي وما هو إلهي، وأهمية التهوية والإضاءة الليلية في بث الشعور بالسلام الداخلي.
وأهم التوصيات التي أستخلصها من الملتقى:
- أن يكون المسجد مكان محبب للناس يجتمعون فيه بكل حب وطمأنينة، ويسألون عن بعضهم البعض لتتحقق الروابط الاجتماعية، وإعادة دور المسجد التربوي.
- ضرورة وجود بنى تحتية للمساجد، ومنها دور تحت الأرض في حالة الأزمات وتزويدها بالتموينات اللازمة والفرش والإضاءة بالبطاريات، ومولدات خاصة في حالة انقطاع التيار الكهربائي.
- الاهتمام بالقباب والمنارات لرمزيتها في الحضارة الإسلامية، مع عدم المبالغة في الزخرفة، والتي قد تكلف ميزانيات عالية.
- مفهوم الاستدامة لبناء المساجد، وخاصة في الدول والمناطق التي تحتاجها.
أخيراً، أعجبتني فكرة ابن خلدون في عمارة المساجد وربطها بقوة الدولة: »فالدولة دون العمران لا يمكن تصورها، والعمران دونها متعذر، فاختلال أحدهما يستلزم اختلال الآخر، كما أن عدم أحدهما يؤثر في عدم الآخر».
هل عرفتم سر نهوض السعودية بالعمران، ومنها عمارة المساجد؟. إنها لبناء وخلافة الإنسان للأرض.
ندوة ومؤتمر (عالمية المكانة).. والمسؤولية الوطنية (2)
تاريخ النشر: 23 أكتوبر 2024 00:19 KSA
A A