أواصلُ الردَّ علَى مقولةِ «إسلام بحيري» فِي برنامجِ «توتر عالي» بقناةِ المشهدِ أنَّ «الإسلامَ قطعةٌ مِن اللؤلؤِ فِي بحرٍ مِن الطِّينِ»، مِن خلالِ أقوالِ بعضِ المستشرقِينَ والمؤرِّخِينَ الغربيِّينَ عَن إنجازاتِ العربِ فِي الحضارةِ الإنسانيَّةِ وأثرهَا علَى الحضارةِ الغربيَّة.
يقولُ فلوريان: «كانَ للعربِ عصرٌ مجيدٌ عرفُوا فيهِ انكبابَهُم علَى الدَّرسِ، وسعيهُم فِي ترقيةِ العلمِ والفنِّ، ولا نبالغُ إنْ قلنَا: إنَّ أوروبَا مدِينةٌ لهُم بخدمتِهِم العلميَّةِ، التِي تمثِّلُ العاملَ الأوَّلَ والأكبرَ فِي نهضةِ القرنَينِ الثَّالث عشر، والرَّابع عشر للميلادِ».
ويقولُ المؤرِّخُ الإنجليزيُّ هربرت جورج ويلز: «عَن حضارةِ العربِ»، وكانتْ طريقُ العربيِّ أنْ ينشدَ الحقيقةَ بكلِّ استقامةٍ وبساطةٍ، وأنْ يجلوهَا بكلِّ وضوحٍ وتدقيقٍ، فهذهِ الخامةُ التِي جاءتنَا نحنُ -الأوروبيِّينَ- مِن اليونانِ، وهِي نُشدانُ النُّورِ، إنَّمَا جاءتنَا عَن طريقِ العربِ.
وقالَ المستشرقُ الفرنسيُّ لويس سديو: «إنَّ إنتاجَ أفكارِ العربِ الغزيرةِ ومخترعاتِهم النفيسةِ تشهدُ أنَّهم أساتذةُ أهلِ أوروبَا فِي جميعِ الأشياءِ. وقالَ الدكتورُ سارطون من علماءِ أمريكَا: «إنَّ العربَ كانُوا أعظمَ معلِّمِينَ فِي العالمِ فِي القرونِ الثلاثةِ: العاشر، والحادِي عشر، والثَّانِي عشر الميلادي». أمَّا الطبيبُ والمؤرِّخُ الفرنسيُّ غوستاف لوبون، فيقولُ: «إنَّ دورَ العربِ لمْ يقتصرْ فقطْ علَى ترقيةِ العلومِ باكتشافاتِهِم، بلْ عملُوا علَى نشرِهَا بواسطةِ جامعاتِهِم ومؤلَّفاتِهِم، وأنَّ التأثيرَ الذِي أحدثُوه فِي أوروبَا مِن هذهِ الخاصيَّةِ الأخيرةِ قدْ كانَ عظيمًا جدًّا». ثمَّ يتحدَّث عن شغفِ العربِ بالعلمِ فيقولُ: «لقدْ بلغَ شغفُ العربِ بالتَّعليمِ مبلغًا عظيمًا، حتَّى أنَّ خلفاءَ بغدادَ كانُوا يستعملُونَ كلَّ الوسائلِ لجذبِ العلماءِ وأشهرِ الفنَّانِينَ فِي العالمِ إلى قصورِهِم، وأنَّ أحدَ هؤلاءِ الخلفاءِ بلغَ الأمرُ منهُ إلَى حدِّ إعلانِ الحربِ علَى قيصرِ القسطنطينيَّة، وذلكَ ليجبرَهُ علَى السَّماحِ لأحدِ الرِّياضيِّين المشهورِينَ بالمجيءِ إلى بغداد والتعليمِ فيهَا.
ويعجبُ غوستاف لوبون بعدَ هذَا أيَّمَا إعجابٍ بذلكَ الشَّغفِ بالعلمِ الذِي افتتنَ بهِ العربُ، ويزدادُ إعجابُه أنْ رأَى هذَا الشغفَ منهُم منبعًا عَن الدِّينِ نفسِهِ، ولذلكَ قالَ: «إنَّ العلمَ الذِي استخفَّتْ بهِ جدًّا أديانٌ أُخْرَى قدْ رفعَ المسلمُونَ مِن شأنِهِ عاليًا».
أمَّا عَن كتابِ الخوارزميِّ فِي علمِ الجبرِ فيقولُ فيهِ المؤرِّخُ السويسريُّ الأمريكيُّ فلوريان كاجوري: «إنَّ العقلَ ليُدهش عندمَا يرَى مَا عملهُ العربُ في الجبرِ».. وأمَّا الطبُّ فإنَّ كتابَ القانونِ لابن سينا كانَ حتَّى أواسطِ القرنِ السَّابع عشر المرجعَ الوحيدَ لمعاهدِ الطبِّ وجامعاتِ أوروبَا.. وفِي علمِ الكيمياءِ كانَ لهُم الكثيرُ مِن الإبداعِ أنْ تمَّ لهُم فيهِ مِن استحضارِ الكثيرِ مِن المركَّباتِ والحوامضِ التِي تقومُ عليهَا الصناعةُ الحديثةُ كالمركَّباتِ التِي تستعملُ حتَّى الآنَ فِي صنعِ الورقِ والحريرِ والمفرقعاتِ والأصبغةِ والسمادِ الصناعيِّ.
وقد كان لسياسة التسامح الإسلامي أثرها العظيم في نفوس أهل الذمة؛ من اليهود والنصارى في الأندلس؛ حيث أقبل المستعربون الإسبان على تعلم اللغة العربية واستخدامها في حياتهم، بل فضلوها على اللاتينية، كما تتلمذ كثير من اليهود على أساتذتهم العرب.. وقد نشطت حركة الترجمة عن العربية نشاطا كبيرا، وخاصة في مدينة طليطلة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، في كل مناحي المعرفة.
يقولُ المؤرِّخُ البلجيكيُّ جورج ألفرد ليون سارتون: «حَقَّقَ المسلمُونَ -عباقرةُ الشَّرقِ- أعظمَ المآثرِ فِي القرونِ الوسطَى، فكُتِبَتْ أعظمُ المؤلَّفاتِ قيمةً، وأكثرهَا أصالةً، وأغزرَهَا مادَّةً باللغةِ العربيَّةِ، وكانتْ مِن منتصفِ القرنِ الثَّامن حتَّى نهايةِ القرنِ الحادِي عشر لغةَ العلمِ الارتقائيَّةِ للجنسِ البشريِّ، حتَّى لقدْ كانَ ينبغِي لأيِّ كائنٍ إذَا أرادَ أنْ يُلِمَّ بثقافةِ عصرهِ وبأحدثِ صُوَرِهَا أنْ يَتَعَلَّم اللغةَ العربيَّةَ».
وعَن مكانةِ قرطبة، يؤكِّدُ المفكرُ ليوبولد فايس: (يهوديٌّ نمساويٌّ وأسلمَ، وأصبحَ اسمهُ محمَّد أسد) أثرهَا فِي التَّدشينِ لعصرِ النهضةِ قائلًا: «لسنَا نبالغُ إذَا قلنَا: إنَّ العصرَ العلميَّ الحديثَ الذِي نعيشُ فيهِ لمْ يُدَشَّن فِي مدنِ أوروبَا، ولكنْ فِي المراكزِ الإسلاميَّةِ؛ فِي دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة».
وحولَ الأندلسِ بصفةٍ عامَّةٍ كمَعْبَرٍ لاتِّصالِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ بالغربِ وانتقالهَا إليهِ، تقولُ زيغريد هونكة: «ولمْ تكنْ جبالُ البرانس لتمنعَ تلكَ الصِّلاتِ، ومِن هنَا وجدتِ الحضارةُ العربيَّةُ الأندلسيَّةُ طريقهَا إلى الغربِ».. وتضيفُ قائلةً: «وقدْ حملَ مشعلَ الحضارةِ العربيَّةِ عَبْرَ الأندلسِ ألوفٌ مِن الأَسرَى الأوروبيِّينَ، عادُوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرهَا مِن مراكزِ الثقافةِ الأندلسيَّةِ، كمَا مثَّل تجَّارُ ليون وجنوا والبندقية ونورمبرج دورَ الوسيطِ بينَ المدنِ الأوروبيَّةِ والمدنِ الأندلسيَّةِ، واحتكَّت ملايينُ الحجَّاجِ مِن المسيحيِّينَ الأوروبيِّينَ فِي طريقهِم إلى سنتياجو بالتُّجَّار العربِ والحجَّاجِ المسيحيِّينَ القادمِينَ مِن شمالِ الأندلسِ، كمَا أسهمَ سيلُ الفرسانِ، والتجَّار، ورجالِ الدِّين المتدفِّقِينَ سنويًّا من أوروبَا إلى إسبانيَا فِي نقلِ أُسسِ الحضارةِ الأندلسيَّةِ إلى بلادهِم، وحملَ اليهودُ من تُجَّار، وأطباءَ، ومتعلِّمِينَ العربَ إلَى بلدانِ الغربِ، كمَا اشتركُوا في أعمالِ الترجمةِ بمدينةِ طليطلة، ونقلُوا عن العربيَّةِ عددًا كبيرًا من القصصِ والأساطيرِ والملاحِ».
هذَا قليلٌ من كثيرٍ مِن شهادةِ علماءِ الغربِ ومستشرقيهِ عَن معجزاتِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ وتفوقهَا علَى جميعِ الحضاراتِ.
هذَا التراثُ الذِي وصفهُ بحيري بـ»بحرٍ مِن طينٍ»، الذِي يريدُ حرقَهُ ودفنَهُ!!.
وقفات عند مقولة بحيري: «الإسلام قطعة من اللؤلؤ في بحر من الطين»! (2)
تاريخ النشر: 24 أكتوبر 2024 01:36 KSA
A A