التشريعُ الربانيُّ الذي تضمَّنتهُ الكتبُ السماويَّةُ خاصٌّ باللهِ تعالَى؛ لأنَّه -سبحانَهُ- خلقَ الجِنَّ والإنسَ لعبادتِهِ؛ لذَا لابُدَّ وأنْ يضعَ لهُم سبلَ وقواعدَ وأدواتِ وممارساتِ هذه العباداتِ، وبمَا أنَّ هؤلاء العبادَ مِن طبيعتِهم التطوُّرُ والتكاثرُ والتنوُّعُ فِي بيئاتِهِم ولغاتِهِم وطبيعةِ حياتِهِم، فقدْ أرسلَ لكلِّ أُمَّةٍ منهُم رسولًا مِنْهم يعلِّمهُم تلكَ العباداتِ ويصلحُ مَا فسدَ منهَا ضمنَ دينٍ اختارهُ اللهُ تعالَى لكلِّ الأُممِ، وهُو دِينُ الإسلامِ، قالَ تعالَى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ) فكانَ لكلِّ رسولٍ تشريعٌ ضمنَ هذَا الدِّينِ يتوافقُ معَ أحوالِ وظروفِ كلِّ أُمةٍ منهُم، فلَا دِينَ غير الدِّينِ الإسلاميِّ، أمَّا مضامينُ رسالاتِ الرسلِ فتُسمَّى شرائعُ تدخلُ جميعًا تحتَ لواءِ هذَا الدِّينِ، وبمَا أنَّ الرسولَ محمدًا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هُو خاتمُ تلكَ الرسالاتِ، فإنَّ ذلكَ يعنِي اكتمالَ مضامين هذَا الدِّينِ وتمامِه، كمَا فِي قولهِ تعالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وقولهُ تعالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وقولهُ تعالَى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).. وهذا أيضًا يدلُّ على اكتمالِ مضامينِ تلكَ العباداتِ.
لكنَّ الذِي حدثَ أنَّهُ بعدَ وفاةِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تمَّ تحويلُ العقيدةِ التِي تضمَّنها كتابُ اللهِ تعالَى، إلى أدواتٍ للكسبِ السياسيِّ، والماديِّ، والسلطويِّ، حيثُ بدأَ الخلافُ بينَ الصحابةِ في سقيفةِ بني ساعدةٍ علَى مَن يخلفُ الرسولَ فِي الحُكمِ، والحقيقةُ أنَّ الرسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لمْ يكنْ حاكمًا حتَّى يُخلفَ، بل مبلِّغًا لرسالةِ ربِّهِ، ومبشرًا وسراجًا منيرًا، ثمَّ تحوَّلت العقيدةُ إلى سياسةٍ أفرزتْ صراعاتٍ ذهبَ ضحيتهَا عشراتُ الآلافِ مِن المسلمِينَ كانَ أبرزهَا المعاركُ التِي نشأتْ بينهُم.
وهكذَا استمرَّت الصراعاتُ السياسيَّةُ، بعيدًا عن المحتوَى العقديِّ الذِي تضمَّنه كتابُ اللهِ تعالَى واستمرَّ ذلكَ الحالُ فِي العصرِ الأمويِّ، والنصفِ الأوَّلِ مِن العصرِ العباسيِّ حتَّى بدأَ الضعفُ والوهنُ يتخلَّلُ العصرَ العباسيَّ بعدَ السيطرةِ شبهِ التامَّة للفرسِ، ومَن فِي معيَّتهِم علَى مفاصلِ الدولةِ العباسيَّةِ، الذِينَ يحملُونَ الكثيرَ مِن الحقدِ والضغينةِ والكراهيةِ الدفينةِ علَى المسلمِينَ الذِينَ طردُوا اليهودَ مِن أرضِ الجزيرةِ الذِين دمَّرُوا حضارةَ الفرسِ، وفعلُوا بهمِ الأفاعيلَ عندَ فتحهِم لبلادهِم، فأرادُوا أنْ يدخلُوا فِي عمقِ وقوَّةِ الدولةِ الإسلاميَّة من خلالِ الدِّينِ الذِي تضمَّنه كتابُ اللهِ تعالَى فبدأُوا ينفثُونَ سمومَهُم مِن خلالِ وضعِ الأحاديثِ المكذوبةِ علَى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.
ومن هنَا جاءَ البعضُ ليعزِّزُوا تلكَ المكذوباتِ عَن غيرِ قصدٍ، فكانتْ سببًا في انحرافِ العامَّةِ مِن النَّاسِ مثل وصفِ الصراطِ المستقيمِ بأنَّه جسرٌ علَى جهنَّم وحولهُ كلاليبُ يتخَّطف النَّاسَ حسبَ أعمالِهِم، وهذه رواياتٌ غيبيَّةٌ لا يستطيعُ البشرُ وصفهَا، وقصص أُخْرى لا تُحصى ولَا تُعدُّ ضمنَ تلكَ الكتبِ التِي أطلقُوا عليهَا كتبَ الترغيبِ والترهيبِ، والتِي لم تردْ فِي كتابِ اللهِ تعالَى الذِي لَا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يديهِ وَلَا مِن خلفهِ. والمُحزنُ والمؤلمُ أنَّ هناكَ قديمًا وحديثًا مَن يقومُ بترسيخِ وتعزيزِ تلكَ الرواياتِ الخرافيَّة في استدلالاتِهِ، وعلى المنابرِ، حتَّى أصبحتْ تحتلُّ مساحةً كُبْرى فِي العقلِ الباطنِ عندَ أغلبِ الناسِ وكأنَّها حقائقُ.
ولعل هذا لم يحدث، لولا ذلك الترسيخ والتعزيز لتلك الخرافات والمكذوبات من قبل البعض، ولولا تأجير عقول الكثير من المسلمين لفئة محدودة، وهجروا كتاب الله تعالى الكامل التام المفصل.