الكِتابَةُ الإبداعِيَّةُ، ثَمرَةُ العُزلَةِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتِّلقائِيَّةِ.. ولَيسَتْ طَوعَ الرَّغبةِ والإرادَةِ وَالتَّعلُّمِ بالضَّرورَةِ، إنَّها حالَةٌ أَقرَبُ إلى الثُّمالَةِ والهَوَسِ وفَيَضانِ المَنبَعِ بانسِيابِيَّةٍ، مِن غيرِ إصرارٍ أَو تَكلُّفٍ. يقولُ الكاتِبُ (جُورج أورويل): «تأليفُ كِتابٍ يُعَدُّ مُعاناةً رَهيبَةً ومُرهِقَةً.. وعلَى المَرءِ أَلَّا يُحاولَ ذلِكَ إلَّا إذَا كانَ مَدفوعًا بِشَيطانٍ لا يُمكِنُهُ مُقاوَمَتُهُ وَلا فَهمُهُ».
الكِتابَةُ كمَا يَقولُ (كافكا): «شَكلٌ مِن أَشكالِ الصَّلاةِ».. وأُفَسِّرُها أنَا كحالَةٍ مِن الوَجْدِ الصُّوفِيِّ الَّذي يَجمَعُ بَينَ المُعاناةِ واللَّذَّةِ، بِنَهَمٍ لا يَفتُرُ وإدمانٍ لَا عِلاجَ لَهُ، قَد يَترُكُكَ طُعمَةً لاضطِراباتٍ مِزاجِيَّةٍ.. وبِوَصفِك كاتِبًا، ستَعيشُ ما تَبقَّى مِن حَياتِكَ غيرِ المُستَقرَّةِ بِهاجِسِ «النُّضوبِ»، هاجِسِ أَلَّا تَجِدَ شيئًا آخَرَ تَكتُبُهُ.
الكِتابَةُ فعلٌ مُجهِدٌ، وعَملٌ مُنهِكٌ، وأمرٌ مُثيرٌ للحُزنِ.. إنَّها تُمَزِّقُكَ، تُبَعثِرُكَ وتُشَتِّتُكَ، ثُمَّ تُلَملِمُ مَا تَبَقَّى مِن شَعَثِكَ، وَتَترُكُكَ بِهُوِيَّةٍ جَديدَةٍ وَمَصيرٍ مَجهولٍ. أَنْ تَكونَ كاتِبًا، يَعنِي أَنْ تُدهِشَكَ التَّفاصيلُ الصَّغيرَةُ، وتُعطيهَا العُذرَ لِتُفسِدَ عَلَيكَ يَومَكَ ومُتعتَكَ، وتَحرِمَكَ النَّومَ، وتَقتَرِبَ بِكَ مِن حُدودِ الهَوَسِ. يَقولُ الرِّوائِيُّ (غازي القُصَيبي): «الكِتابَةُ عَمَلٌ جادٌّ وَشاقٌّ. الكِتابَةُ دَفَعَت بِكثيرٍ مِنَ الكُتَّابِ إلى الانتِحارِ أَو الجُنونِ أَو الإدمانِ».
يَصِفُ الرِّوائِيُّ (بول أستور) كيفَ يَقضي جُلَّ يومِهِ وحيدًا في غُرفَتِهِ مُحاوِلًا الكِتابَةَ.. مَعَ اعتِرافِهِ أَنَّ هُناكَ أَشياءَ أكثَرَ تَسلِيَةً وَمَغزًى في العالَمِ، وكيفَ أَنَّهُ نِهايةَ اليَومِ لا يَكونُ قَد أَنجَزَ شَيئًا، فَقَد مَزَّقَ كُلَّ الأَوراقِ الَّتي كتَبَها وأَلقاهَا في سَلَّةِ المُهمَلاتِ، لَكِنَّهُ يَقولُ: «لَقَد حاوَلتُ بِكامِلِ طاقَتي، وَأَشعُرُ بِالرِّضَا يَغمُرُني»، وهُوَ يَنصَحُ صِغارَ الكُتَّابِ بِأَلَّا يَكونوا كُتَّابًا، لأَنَّها طَريقَةٌ فَظيعَةٌ لِلعَيشِ، إلَّا إذَا كانَ لَهُم مِزاجٌ خاصٌّ لِلعُزلَةِ والغُموضِ والفَقرِ، أَو إذَا كانُوا يَحتَرِقُونَ شَوقًا وَرَغبَةً لِلكِتابَةِ، غيرَ أَنَّهُم بَعدَ ذَلِكَ لا يَجبُ أَنْ يَتوَقَّعوا شَيئًا مِن الكِتابَةِ.. الكِتابَةُ لا تَعِدُ أَحَدًا بِأَيِّ مُقَابِلٍ.
لَكِنَّني أَقولُ: إنَّ لِلتَّأليفِ مَجدًا، ولِلكِتابَةِ تَأَلُّقًا، ولِلنَّصِّ الأَدَبِيِّ هالَتَهُ وفَخارَهُ، أنْ يَضطَرِبَ بِكِلِماتِكَ قَلبُ قارِئٍ، وتَعتَمِلَ في نَفسِهِ مَشاعِرُكَ ذاتُهَا فَيُحَدِّثَ نَفسَهُ ويَقولَ: كيفَ شَعَرَ الكاتِبُ بِانفِعالاتِي ومَشاعِرِي الخاصّة، وعَرَفَ ما جَرَى عَليَّ مِن أحداثٍ وتَجارِبَ لم يَعلَمهَا غَيرِي، كَيفَ مَسَّ مِنِّي وَجَعِي؟!.. حَسَنًا، هَذَا هُو مَجدُ الكِتابَةِ.. إنَّهُ لأَمرٌ جَلَلٌ.