في تقرير بثته قناة الإخبارية مؤخرا عن (الطابور المدفوع)، وهو أحد أساليب التسويق أو الترويج لمطعم أو مقهى، بحيث يدفع صاحب المحل لمجموعة من الناس مبلغا معينا أو تقديم كوب مجاني فقط مقابل الوقوف في طابور أمام المحل لإيهام الآخرين بأن ما يُقدَّم يستحوذ على إعجاب الناس ليصل للترند..! مع أن الذين تقابل معهم المذيع اعترف بعضهم «بأنها مضيعة وقت على شيء لا يسوى»، وقال آخر إنها مصدر دخل لهم..! ويبقى هؤلاء واقفين حتى يوقف صاحب المحل الدفع لهم، فيذهبون إلى محل آخر!! وأن هناك ناس عملهم أو وظيفتهم «الطابور الوهمي» واعتباره نوعا من الفعالية!!.
وحقيقةً، كم هو غريب أن يصل التسويق إلى هذه الدرجة من الخداع للمستهلك، ولكن حتماً فإن ذلك بناء على دراسة لسلوك الأفراد؛ ومنهم العاطلون عن العمل، وإيجاد فاعلية لهم ومصدر رزق.. مع أن التسويق الذكي لابد أن يتصف بالمصداقية، وأن تنشأ ثقة بين التاجر والمستهلك أو العملاء، لأن هذا التسويق يؤثر على سمعة المحل على المدى الطويل، فكل مَن يقف في الطابور ودُفِعَ له مبلغ، حتماً سيُخبر الآخرين.. وربما ينقلب السحر على الساحر في فقده للزبائن تدريجياً، وربما خسارته.
هذا التسويق اختلف قليلا عن التسويق في مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام «الكوب الوردي»، وهو نوع من التسويق الذي يتلاعب فيه على العملاء، فمقابل القهوة، هناك هدية «كوب وردي» مجاني، لا تتجاوز قيمته 24 ريالا، ومع أن المقصود كان شريحة النساء، حيث اللون الوردي رمز للأنوثة، ولكننا رأينا حتى تسابق الشباب على المحل في طوابير بلغت المئات، بالرغم من نفاد الكمية!!. ووصلت إلى السوق السوداء، حيث بلغ سعر الكوب (٥٠٠- ١٠٠٠ ريال)، إلا أننا أمام مشكلة حقيقية، وهي الفراغ النفسي والعاطفي والاجتماعي والقيمي.
فالتسويق البراق قد تلجأ إليه بعض الشركات للترويج لمنتوجاتها والتسويق لها، بصرف النظر عن مصداقيتها، وتوفُّر الجودة اللازمة في المنتج، ولكنه الربح الذي تهدف إليه؛ مع أنه يفترض تعريف المجتمع بالمنتج وجذب العملاء بالتجريب والمصداقية، وإشباع رغبات وحاجات المستهلكين وثقتهم بالمنتج.
وبالرغم من نجاح بعض من هذه الأنواع البراقة في التسويق، إلى أنها مؤشرات على انحراف للسلوك الجماهيري، وعدم الاتزان الذي يأتي من الفراغ، فمثل هذا السلوك بعيد عن الاشتغال بالمستهدفات الوطنية العليا، كما أن سيكولوجية الجماهير تقع تحت تأثير اللاوعي واتباع مقولة: (مع القوم يا شقرا)، والتي قد تكون مقبولة في وقت الأزمات والكوارث؛ وأن تصرف فرد يدفع الآخرين انتهاج نفس السلوك مهما كان خاطئاً، لعدم توفر الوقت الكافي للاتزان العقلي والتفكير الجاد. أما ما يحدث في حالات الاسترخاء والحصول على كوب قهوة، فهذا أسلوب من الأساليب تدل على فقد الإرادة الحقيقية، وهي محور أساسي في توجيه السلوك.
في كتابها أزمة الثقافة، تقول آرندت: «أصبحت الثقافة شيئاً هامشياً، وأن هناك انحداراً للاوعي الجماهيري في عصرنا الحديث.. في الوقت الذي كانت الثقافة في الماضي مرآة للتفكير والتأمل العميق، لتحل محلها التسلية السطحية التي تفتقر للعمق والمعنى.. وهنا يتحول العقل الذي كان أداة للتأمل والتفكير، إلى وسيلة للهروب من مواجهة الذات، مما ينفي عمق التجربة الإنسانية، ويعيق القدرة على التفكير النقدي، وإنها أزمة تهدد الهوية الإنسانية».
وهذه حقيقة من وجهة نظري تجعلنا أمام تحد كبير في توجيه الجماهير وسلوكهم الجمعي عبر وسائل الإعلام الهادفة والبرامج والأنشطة، وكذلك في الميدان التربوي التعليمي.. فما هي الخطط الاستراتيجية لوزارة التعليم لتوجيه قدرات الشباب لتحقيق المستهدفات الوطنية؛ وبالتالي خطط إدارات التعليم التشغيلية في المدارس والجامعات لتوجيه طاقات الشباب وقدراتهم ومهاراتهم؟.. فمثلاً هل فعَّلنا حلم (السعودية الخضراء) وأشركنا الشباب فيها، حيث المستهدف منها زراعة 10 مليارات شجرة في جميع أنحاء المملكة...!؟
هل استفاد طلابنا وطالباتنا من منهجي التفكير الناقد والفلسفة؛ اللذين اعتمدا قبل حوالى أربعة أعوام في التفكير والتأمل والتقويم واتخاذ القرارات في المواقف؟، هل تم تقويم تلك التجربة التعليمية؟، وأساليب (التقويم المدرسية)؟، وليس فقط على الشكليات والنتائج المدرسية للمواد التي تتطلب وضع درجات كاملة للطالب بصرف النظر عن مستواه الحقيقي، فلو نقص نُحاسب المعلم!!.
أجاب أحد المعلمين في فنلندا حينما سُئل عن كيفية تنقية الإنترنت للحيلولة دون تعرض الطالب للمواد غير المرغوبة. فقال إن أدوات الفرز تقبع في رؤوس الطلاب.
نعم، هذا هو سر نجاح التعليم في فنلندا.. فهل نتبع مثل تلك الأساليب فلا يخضع أبناؤنا لأساليب الخداع التسويقي أو الإرهابي أو غيره؟!.