انشغلت الأوساط العلمية والثقافية خلال الأيام الماضية بالاكتشاف الفريد لقرية النطاة الأثرية؛ التي يعود تاريخها إلى العصر البرونزي في واحة خيبر شمال غرب المملكة، والذي أعلنته الهيئة الملكية لمحافظة العلا. فقد تسابقت وكالات الأنباء والصحف العالمية لنشر الخبر، لا سيما بعد نشره في إصدارة علمية معروفة هي مجلة (بلس ون) الأمريكية.
وتكمن أهمية هذا الاكتشاف في أنه يعيد تشكيل كثيرا من المفاهيم السابقة؛ التي كانت تشير إلى أن الرعي والبداوة كانتا النموذج الاجتماعي والاقتصادي السائد في شمال غرب الجزيرة العربية خلال العصر البرونزي المبكر والمتوسط، فقد أشارت الدراسة إلى أن المنطقة كانت في الأصل مركز احضاريا مهما يدعم استقرار مجتمعاتها بشكل دائم، خاصة مع ظهور الزراعة فيها.
وتضيف الدراسة أن ظهور هذا النمط الحضاري كان له أكبر الأثر على المنطقة برمتها، حيث تُظهر الأدلة أنه على الرغم من وجود عدد كبير من المجتمعات الرعوية المتنقلة في شمال غرب الجزيرة العربية في العصر البرونزي؛ إلا أن قرية النطاة كانت مركزا للتجارة والتعاملات مع المجتمعات المتنقلة.
هذه الحقائق العلمية المذهلة لا شك سوف تعيد التفكير في كثير من المعلومات العلمية التي كانت سائدة قبل هذا الكشف، وهو ما سيستلزم تنظيم زيارات متعدّدة من مراكز أكاديمية وبحثية مرموقة على مستوى العالم إلى المملكة لمشاهدة القرية على الطبيعة وفحص المتعلّقات التي تم العثور عليها، وهو ما يعني ببساطة أن المملكة سوف تكون في قلب دائرة الضوء الإعلامي.
كما أن بقية المناطق التراثية السعودية سوف تحظى بتركيز كبير من الأوساط العلمية والبحثية، لا سيما تلك المسجّلة في لائحة اليونسكو للتراث الإنساني، وفي ذلك فوائد ومكاسب أكثر من أن تحصى سوف تجنيها بلادنا خلال الفترة المقبلة؛ وفي مقدمتها تطوير العلوم والمعارف، وتحويل المملكة إلى مقصد رئيسي للبعثات العلمية والأكاديمية، مما يوفر فرصة ذهبية لجامعاتنا الوطنية لتوقيع اتفاقات تعاون علمي تعود عليها بفوائد كثيرة.
أما على الصعيد الاقتصادي؛ فإن الاهتمام بهذه المواقع الأثرية وتطويرها يمكن أن يحقق مكاسب عديدة، مثل تحويل السياحة إلى مصدر من مصادر الدخل الرئيسية، التي توفر عشرات الآلاف من الفرص الوظيفية للشباب، بما يؤدي لتعزيز جودة الحياة ورفع مستوى المعيشة، وتحقيق طفرة متكاملة في جميع المناطق.
وكانت رؤية 2030 قد أولت أهمية كبيرة لتطوير المواقع الأثرية، ووضعت تصورا متكاملا لكيفية استغلالها وتسخيرها بالشكل الذي يجعل منها موردا اقتصاديا بالغ الأهمية؛ يسهم في تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، فهذا القطاع يشكل كنزا ثمينا لم يتم استغلاله حتى الآن بالصورة المثلى.
وإضافة إلى المكاسب العلمية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تتحقق من الاهتمام بالمواقع التاريخية والأثرية؛ فإن هناك جوانب قد تكون أكثر أهمية، وتتمثل في تعريف الأجيال الجديدة بثقافة الآباء والأجداد، مما يدفعهم للفخر بانتمائهم لهذه البلاد وتعزيز الوحدة الوطنية، وترسيخ القيم العربية والإسلامية، وإنعاش السياحة الداخلية، وزيادة الولاء لأرض الحرمين التي كان لها إسهام كبير في حركة الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين.
وتُعد منطقة نجران من أهم المناطق التراثية السعودية التي تنتظر مزيدا من الاهتمام، فقد كانت ملتقى القوافل التجارية منذ قديم الزمان، وبها أكثر من 134 موقعا أثريا في مقدمتها منطقة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. إضافة لذلك توجد منطقة حمى التي تم تسجيلها مؤخرا في لائحة اليونسكو للتراث الإنساني، وتضم 6 آبار وكانت محطة رئيسية منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام للقوافل التجارية القادمة من جنوب الجزيرة العربية نحو شمالها.
بلادنا ولله الحمد تتمتع بالعديد من المواقع التاريخية التي يندر وجودها في أي دولة أخرى، ونحن بحاجة ماسة للاهتمام بها وفق خطة علمية مدروسة تؤدي للحفاظ عليها والاستفادة منها بالشكل المطلوب، وتعريف العالم بالدور الحضاري الكبير لهذه البلاد على مدار التاريخ الإنساني، فهذه المواقع تثبت الدور الفاعل للمملكة، وموقعها البارز على خارطة الحضارة الإنسانية وإرثها العريق.