** ذلك أنَّ هذه الجريدة تُعتبر بالنسبة لي مدرستي الصحفيَّة اليوميَّة الأُولَى التِي تعلَّمت فيها مبادئ العمل الصحفي، سواء في نطاق العمل الميداني اليومي، ومتابعة الأحداث لحظة بلحظة، أو في مجال العمل الفني والإخراجي والتنفيذي، ومتابعة مراحله بدء من التخطيط للفكرة، ومرورًا بالتنفيذ، وانتهاءً بعملية النشر وتلقِّي ردود الفعل، ومن ثمَّ معالجة الأخطاء وتلافي أوجه النقص، وتحسين مستوى الأداء.. وأساليب مخاطبة القارئ، والتجاوب مع احتياجاته، وتبنِّي أفكاره ورغباته وتطلُّعاته، والاقتراب منه أكثر فأكثر، وانتهاءً بالتأثير في توجُّهاته، ورفع معدل اهتمامه بالأحداث، ومساعدته حتَّى في اتِّخاذ قراراته الصحيحة تجاه قضايا الحياة المختلفة، ومشاركته في التفكير بصورة يوميَّة في مختلف شؤون الحياة ومنعطفاتها المختلفة.
** أتذكَّر كل هذا.. لأنَّني كنت أتابعه بشغف كمتدربٍ، وقد التف حوله كلٌّ من الأستاذ محمد صلاح الدين مدير التحرير -عليه رحمة الله- والأستاذ أحمد محمد محمود -أطال الله في عمره- والأستاذ سباعي عثمان -عليه رحمة الله- ومخرج الصحيفة، ورسام الكاريكاتير اللبناني.
** وفي كل يوم كنتُ أتعلَّم في رحاب هذه الصحيفة شيئًا جديدًا يشاركني في ذلك زميلان متدرِّبان آخران هما: علي القرعاوي -عليه رحمة الله- وعبدالله القينيعير.
** وعندما خلفه في رئاسة التحرير الدبلوماسي الأستاذ محمد عبدالقادر علاقي عام (1965-1966) كان قد التحق بالجريدة الأستاذ بدر أحمد كريم -عليه رحمة الله- وكان مسؤولًا حينها عن القسم الفني بالجريدة. تعزَّزت علاقتي بالجريدة وتنوَّعت مشاركاتي، وإنْ ركَّزت في البداية على الشأن الرياضي.. وأصدرنا لأوَّل مرَّة في تاريخ الصحافة السعوديَّة أوَّل ملحق رياضي أسبوعي يُغطِّي بتوسُّع أحداث الرياضة المحليَّة والدوليَّة، ويجمع بين التَّحليل والتَّوقع لما ستكون عليه نتائج مباريات الأسبوع المقبل، واستقطبنا فيه بعض المحلِّلين الرياضيِّين العرب، وكان محل اهتمام القراء وسببًا من أسباب انتشارها.
** لكنَّ الأستاذ العلاقي، وإنْ أضاف إلى الجريدة لمساتٍ واضحةً من خبراته الدبلوماسيَّة واهتماماته السياسيَّة، إلَّا أنَّه لم يلبث أنْ عاد إلى عمله السَّابق بوزارة الخارجيَّة بعد أقل من عام قضاه معنا في الجريدة.
** وعندما حلَّ محلَّه الأستاذ عزيز ضياء في رئاسة التحرير، وجدنا فيه الرَّجل واسع الأفق، والمهتم بمقالات الرأي.. وكان يقول لنا إنَّ الخبر وإنْ كان مهمًّا بالنسبة للصحيفة، إلَّا أنَّ الرَّأي أهم عندي؛ لأنَّه يُشكِّل إضافةً حقيقيَّةً يجد فيها القارئُ الجديدَ الذي يبحث عنه.. لكنْ هو الآخر تركنا بعد بضعة أشهر.
** كل هذا حدث بالنسبة لي في مرحلة التكوُّن والتَّأسيس.. فيما كان بالنسبة لجريدة المدينة يُشكِّل فترة التَّطبيع والتطبُّع مع نظام المؤسَّسات الصحفيَّة الجديد، الذي صدر في العام 1383هـ في عهد وزير الإعلام الأستاذ جميل الحجيلان -أطال الله في عمره- وكان تعاملي مع الجريدة متعاونًا بحكم عملي في جمرك جدَّة، وإنْ كنت أقضي في الجريدة أوقاتًا طويلةً وبشغف كبير.
التفرُّغ للعمل بالجريدة
** وعندما انتقلت الجريدة إلى مبناها الجديد في حي الكندرة قريبًا من مطابع الأصفهاني، ومقر الخطوط السعوديَّة.. عرض عليَّ الأستاذ محمد صلاح الدين مدير التحرير -بعد العمل لمدَّة سنتين كغير متفرِّغ- فكرة التفرُّغ الكامل برغبة من رئيس التحرير الأستاذ عثمان حافظ -عليهما رحمة الله-.. وعندما أبديتُ له موافقتي طلب مني مقابلة كلٍّ من رئيس التحرير، وكذلك مدير عام المؤسَّسة -آنذاك- الأستاذ «عبدالله القصبي» ووجدتُ منهما كلَّ ترحيب ودعم ومساندة.. لكن الأستاذ القصبي ما لبث أنْ ترك المؤسَّسة وحلَّ محلَّه الأستاذ أحمد صلاح جمجوم..
** وهكذا استمرَّت رحلتي مع هذه الجريدة متدرِّبًا.. ثم مندوبًا.. ثم محرِّرًا غير متفرِّغ.. ثم سكرتيرًا للتحرير للشؤون المحليَّة بالتفرُّغ.. ولمدَّة (10) أعوام كاملة -هي زهرة عمري- ومدرستي الصحفيَّة اليوميَّة الأُولى.. حيث اكتسبتُ فيها ومعها خبراتٍ واسعةً ليس فقط بالعمل المهني الحقيقي، وإنَّما بالحياة، وبالناس، وبالثقافة.. وبالعالم على اتِّساعه.
** صحيحٌ أنَّ بداياتي الصحفيَّة المبكِّرة مراسلًا من جازان للعديد من الصحف والمجلات المحليَّة والعربيَّة مثل: (البلاد - الندوة - قريش - وكذلك كاتبًا في مجلة الإذاعة السعوديَّة، ومجلَّة المنهل).
** وصحيحٌ أنَّني بدأتُ في ممارسة العمليَّة الصحفيَّة لأوَّل مرَّة في «مجلة الرَّائد الأسبوعيَّة» في ظلِّ رئاسة تحرير الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، ومدير التحرير الأستاذ عبدالعزيز فرشوطي -عليهما رحمة الله- إلَّا أنَّ الأكثر صحَّةً هو أنَّ الالتحاق بهذه الجريدة.. والانتظام في العمل اليومي.. وتحديدًا في هذه الجريدة.. وتحت الإشراف المباشر للأستاذ محمد صلاح الدين -يرحمه الله- قد أكسبني الكثير من الخبرات بدقائق العمليَّة الصحفيَّة الواسعة، إلى جانب زملاء أعزَّاء أحببتهم كثيرًا.. وفي مقدِّمتهم أخي الأستاذ أحمد محمد محمود.. وسباعي عثمان.. من جدَّة، ومحمد الطيَّار.. وعلي الشَّدي.. من الرِّياض.. وعشرات غيرهم.. بالإضافة إلى انفتاحي على المجتمع وتعرُّفي على الكُتَّاب.. وكبار المسؤولين والشخصيَّات لتتشكَّل بذلك شخصيَّتي الاجتماعيَّة والصحفيَّة في مرحلة التَّأسيس والانطلاق في عوالم المهنيَّة الصحفيَّة الواسعة والمثيرة على حدٍّ سواء.
** وعندما صدرت مجلَّة «اقرأ» الأسبوعيَّة برئاسة الدكتور عبدالله مناع -عليه رحمة الله- عرض عليَّ العمل معه مديرًا لتحرير المجلة بعد استقالتي من جريدة المدينة، لم أتردَّد في قبول عرضه.. لأنتقل بعد ذلك في العمل مع الأستاذ عبدالله المنيعي مديرًا لتحرير مجلَّة الرياضي.. ثمَّ متعاونًا مع جريدة الجزيرة.. ثم نائبًا لرئيس تحرير جريدة البلاد.. وإلى أنْ تولَّيت رئاسة تحرير جريدة عكاظ في بداية العام (1401هـ)، ولمدَّة تتجاوز الثلاثين عامًا.. حيث أعطيتها بقيَّة عمري.. وعرفت فيها الكثير من المواهب والقدرات..
ومن بين مَن عرفت.. الابن العزيز الأستاذ محمد محجوب.. الذي يدير الآن هذه الصحيفة ويتحمَّل مسؤوليَّة رئاسة التحرير.. بخبراته العريضة، وطموحه اللامحدود. ** وإذا كان هناك ما يحسُن أنْ أختم به هذا المقال عن هذه الجريدة الأُم، فهو أنَّ جريدة المدينة كانت -وما تزال، وسوف تظل- تمثِّل مدينة الرسول الأعظم.. التي تهفو لها القلوب.. ويتطلَّع إلى زيارتها المسلمون من كل مكان في العالم.. وهو ما يعطي هذه الصحيفة قيمةً رفيعةً وأهميَّةً خاصَّةً وتجعلها منبرًا مهمًّا لإعلاء كلمة الحق، التي تنطلق من هذه البلاد المباركة.. لأنَّ جريدة المدينة جزء من تاريخ هذا الوطن الغالي بكل ما شهد من أحداث وتطوُّرات هامَّة.. وما ينتظره من مستقبل مشرق -بإذنه تعالى- فضلًا عن كونها مدرسةً عريقةً في تاريخ الإعلام السعوديِّ الأصيل.
* هاشم عبده هاشم