رحلة سباق غير عادي واستثنائي نحو البيت الأبيض، خاض غمارها الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، حتَّى حقَّق فوزًا مريحًا في الانتخابات الرئاسيَّة على منافسته الديموقراطيَّة كاميلا هاريس، ليعود مجددًا للبيت الأبيض بعد خسارته عام 2020م، ويصبح الرئيس الـ47 للولايات المتَّحدة، بذلك يكون الرئيس الأمريكي الثاني الذي يفوز بولايتين غير متتاليتين بعد غروفر كليفلاند الذي حقَّق هذا الإنجاز قبل نحو 132 سنة.
من المفارقات التي تناولتها وسائل الإعلام، أنَّ ترامب تمكَّن من هزيمة سيِّدتين هيلاري كلينتون، وكاميلا هاريس، وحرمهما من أنْ تكون أيٌّ منهما أوَّل امرأة تقود قوَّة عُظمَى في العالم، رغم أنَّ الأولى تفوَّقت عليه في التَّصويت الشعبي بنحو 3 ملايين صوت، فيما الثانية منحتها استطلاعات الرأي الأمل الأكبر في الفوز، إلَّا أنَّ المجتمع الأمريكي بدا مع هاتين التجربتين أنَّه ليس مهيَّأً بعد لانتخاب امرأة رئيسًا للبلاد المنقسمة على نفسها.
وهنا تساؤل أطرحه للتاريخ: هل هناك قصور عالمي في إعداد النساء للقيادة العُليا حتَّى في أمريكا؟ ولأنَّ لي شغفًا حقيقيًّا بعالم تمكين القيادات النسائيَّة في كل المجالات، وأتابع بحرص شديد، واهتمام كبير كل ما يحدث في عالم تمكين النساء، ومنذ طفولتي المبكِّرة كنتُ أرصد تحرُّكات وقوَّة المرأة الحديديَّة في بريطانيا مارجريت تاتشر، وبنازير بوتو في باكستان، والمستشارة الألمانيَّة أنجيلا ميركل، وبعد ذلك لم تعد تلفت انتباهي أي امرأة في موقع السلطة، إلَّا عندما تتحدَّث سمو الأميرة ريما بنت بندر سفيرة خادم الحرمين الشَّريفين في واشنطن حضورًا وثقافةً وثقةً وكاريزما القيادة في أروع وأكمل صورة.
وعودة للانتخابات الأمريكيَّة لتدوين أفكار تزاحمت في عقلي، وتحليل للنتيجة التي كنتُ أراها حتمية في انتصار ترامب رغم كل التحدِّيات والصعوبات التي وصلت به إلى المحاكم والتُّهم القضائيَّة؛ رغم ذلك كان يتمتَّع بعزيمة وإصرار قوي جدًّا للوصول للهدف، وهذا أمر مهم عند القادة؛ كما أنَّه يمتلك رؤيةً واضحةً، ولغةً قويَّةً، وقدرةً على مواجهة الجمهور، والخطابة، والتصدِّي لوسائل الإعلام، والرد عليها بكل ثقة واقتدار، والصعود أمام الجماهير في مثل هذه المواقف الانتخابيَّة له تأثير على الناخب؛ وكلَّما كانت اللغةُ قويَّةً، والفكرةُ حاضرةً، والعزيمةُ موجودةً، ولغةُ الجسدِ مؤثرةً في الجماهير -وتلك مهارات تُدرَّس في أعرق المعاهد المتخصِّصة لإعداد القادة في العالم- كان النجاح حليف المرشَّح، بينما هاريس كانت تفتقد الحضور، والكاريزما، والثقة بالنفس، وعدم وجود خطَّة واضحة، وملف الاقتصاد كان الكفَّة الرَّاجحة عند ترامب، بينما هاريس لم يكن لديها ما تقدِّمه للناخب الأمريكي، حتَّى استعانتها بعمالقة الخطابة في أمريكا لم ينقذوها من هذا الموقف الحرج، وهي محسوبة على سياسة الديمقراطيِّين التي أساءت للشعب الأمريكي واقتصاده، وحالة التضخم الكبيرة التي يعيشها المواطن، وملف الهجرة غير الشرعيَّة كان بمثابة الشعرة التي نالت من هذه المرأة، التي وضعت في السباق الانتخابي بدون إعداد مسبق يليق بهذه المنافسة الشرسة، أمام رجل عنيد وقوي ومحارب من أجل تحقيق غايته، وكانت مراهنة إيلون ماسك ودعمه الكبير والقوي لحملة ترامب الانتخابية هي الكرت الرابح، ولغة المال تنتصر؛ والاقتصاد عصب الحياة، وكل وعود ترامب بعودة أمريكا القويَّة تروق لمسامع الأمريكيين.
في لقاء ترامب مؤخَّرًا مع قناة العربيَّة، تحدَّثت المذيعة عن ترديد ترامب قوله بأنَّه يطلب منها أنْ تسلِّم على صديقه الأمير محمد بن سلمان، وكانت لفتة جميلة تستحق التوقف عندها.
مع هذا الرئيس الجديد للبيت الأبيض، نأمل أنْ تعود الأمور لنصابها في حالة سلم وهدوء وتوقف لنيران الحروب في كل العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ ليعيش أهل المنطقة في رخاء وسكينة وطمأنينة، بعيدًا عن الحالة التي نعيشها اليوم، والتي نسأل الله أنْ تعود الحياة أجمل ممَّا كانت في سلام شامل وعادل للجميع.
ويبقى ملف تمكين المرأة يستحق الدِّراسة، حتَّى يتم وضعها في الموقع المناسب؛ لتكون من صنَّاع القرار بعد تأهيلها وإعدادها بشكل جيد، وعدم إقحامها في المشهد قبل أنْ تكون مهيَّأةً وقويَّةً ومتسلِّحةً بأدوات القيادة، وليس شرطًا أنْ تكون رئيسةً بل ممثِّلة لوطنها في كل موقع قيادي، وتكون نموذجًا يُحتذى به في النَّزاهة والأمانة والثقة بالنفس والعلم والحضور الكاريزمي القيادي، والتي تتقن فن الكلام والحديث بطلاقة فائقة؛ لأنَّ الكلمة قوة مع الوعي الكافي بكلِّ متطلَّبات العمل الذي تؤديه؛ فلا تمكن المرأة الضعيفة، ولا التي تستعرض بكلمات تتردد، والعقل خاوٍ من الفكر العميق؛ وكما يولى الرجل القوي الأمين، كذلك المرأة التي تتولَّى زمام القيادة لابُدَّ أنْ تتَّصف بالقوَّة والأمانة والثقة العالية في قدراتها، وهي أهل لذلك إنْ تم اختيارها وفق معايير تمكين القيادات العُليا وبحياديَّة وعدالة.