تظلُّ الإدارة فنًّا يمارسه الكثيرُ، ويتقنه القليلُ، فالإدارة في مفهوم المنجز رديفة للجودة، والجودة تمثِّل معيار التمايز بين مدير، وآخر، وأنَّ لكل مدير فلسفته، التي تعكس مفهوم الإدارة لديه، ومَن يحدِّد أين يقف من الإدارة كفنٍّ هو تعامله مع الآخرين، ومدى ما يحظى به من قبول لديهم.
وهنا يبرز الفارق الشاسع بين مدير بحث عن الكرسي، وآخر بحث عنه الكرسي، مع أنَّ الوصول كنتيجة واحدة، ولكنَّ حيثيات ما بعد (الجلوس) هي مَن يصنع الفارق، ويجلِّي الصورة، بل ويملأ الفراغ عند ذكره مدحًا كان أو قدحًا، ثناءً أو ذمًّا، وهو ما يُستشف من صورة حيَّة، ودموع على الهواء مباشرة كما هو عنوان المقال.
وقصَّة ذلك في موظِّف قطع بصوته الجهوريِّ تسلسل أفكار ذلك الحفل البهيج، الذي جاء احتفاءً بالمدير الجديد، ليشير إلى المدير السَّابق المتقاعد باسمه وصفته قائلًا: «يا فلان حسبي الله عليك، فقد ظلمتني، ولن أسامحك»، هنا تحوَّلت بوصلة الحفل إلى اتِّجاه آخرَ، وقلبت صفحة (الشعور) رأسًا على عقب، في موقف مهما بلغت صدمة الجميع به، إلَّا أنَّها لا تمثِّل شيئًا أمام هول صدمة المدير السَّابق.
فتلك الدموع لذلك المدير، وأكرِّر (السَّابق) تعبير صريح عن هول الموقف، وفداحة الخطب، إنَّها لحظة تصعب على الوصف، حتَّى ومحاولات تطييب الخاطر تحاول أنْ تنتزع من ذلك الموظَّف بادرة سماح، فما زاد إلَّا إصرارًا على: «وَعِندَ اللهِ تَجْتمعُ الخُصُومُ» ثمَّ غادر. هكذا كان المشهد الذي حضره الجميع، وكان (الكرسي)، الذي استجلب ذلك الموقف الغائب الوحيد.
هنا أتوقَّف عند دموع ذلك المدير؛ لأنَّ ما بعدها شأنه الخاص، فيما يظلُّ الموقف موضع عِبرة، ودرس حياة، لكلِّ مدير جاء إلى الكرسيِّ فأساء بتعامله إلى الكرسي، وبدلًا من أنْ يصنع له الكرسي (مكانةً)، حمَّله الكرسي تبعات (مكانِهُ)، وأي تبعات!
فكم من مدير وجد من خلال الكرسي فرصةً سانحةً ليفعل في حق الآخرين -من دونِ حقٍّ- ما يشاء، متناسيًا أنَّ كمَا جاء إلى الكرسيِّ سيغادره يومًا ما، والعبرة فيما بقي بعد ذلك، حيث خياران لا ثالث لهما، فإمَّا أنْ يكون له أو عليه.
فما أقساها، وأشنعها من عاقبة أنْ يكون (عليه)، عليه في صورة صرخة مظلوم، أو دعوات في جوف ليل بهيم، تصعد إلى السماء بحسبي الله ونعم الوكيل، فيا له من موقف الدموع على قسوتها، وألمها في لحظتها ليست سوى تعبير بسيط، وإيذان بفتح طريق لا نهاية له من الندم، والألم، وتأنيب الضمير، كل ذلك يفعله مدير، نعم مدير كان يرى أنَّه الكل في الكل، واليوم هو مدير، ولكن (سابق).
فماذا بعد سوى أنْ يستفيق كل مدير (مرَّ من هنا)، ويعيد حساباته ليس في جانب ماله فقط، ولكن إنْ أراد الخروج من الباب الواسع أنْ يجعل ما عليه أوَّلًا.. أوَّلًا.. أوَّلًا، فإنْ فعل فقد استبرأ لنفسه، ورضي عنه مَن حوله، وخلَّد في قلوب كل من عرفه اسمَه، ورسمَه، وهو الكسب الحقيقي الباقي من فترة جلوس على كرسي يكفي للتعريف به، والدلالة عليه أنَّه (دوَّار).. وعلمي وسلامتكم.