لا يخفى تأثير دخول قنوات التَّواصل على حياة الفرد، ونسيج المجتمع، وهو تأثير بقدر ما أحدثه من نقلة في المفيد، فإنَّه ذهب بمسافات أطول، ونقاط أعمق إلى حيث إلحاق الضَّرر بجوانب كثيرة، كانت أبعد من أنْ يُتصوَّر أنَّها سوف تصبح شيئًا من الماضي، فتلك المجالس، التي كانت تُدار بعلوم الرِّجال على صوت الفناجيل حوَّلتها أجهزة (الجوَّال) إلى أثر بعد عين، فمن كان بالأمس ينهر من يحاول مقاطعة الحديث، حتمًا سيُصدم اليوم بواقع: الجسد هنا، وكل الحواس هناك.
فكلٌّ قد انصرف إلى حيث عالمه الافتراضي، في صورة من رتابة مملَّة، أسهمت -ولا شكَّ- فيما تعيشه تلك المجالس اليوم من غربة، عدا من بعض عبق ذلك الماضي الجميل، والمتمثِّل في صورة عدد من كبار السِّن، وهم يتجاذبُون أطراف الحديث فيما بينهم، بينما في الجانب الآخر، تزداد الصورة قتامةً في ظلِّ واقع (إدمان) جديد طال بأثره الصَّغير، والكبير، بل حتَّى في محيط الأسرة نواة أيِّ مجتمع، أصبح كلٌّ مشغولًا بجوَّاله، فتلاشت تلك الصورة، التي كانت تمثِّل فيها الأسرة كيانًا يتنفَّس الحياة من رئة مكانٍ واحدٍ.. فماذا كانت النَّتيجة بعد هجمة الجوَّال، وقنوات التَّواصل سوى التحوُّل من الاجتماع إلى الفرقة، ومن حيويَّة المجالس، وأحاديث السَّمر إلى صمتِ المقابر.
في وقتٍ يعتقد الجيل الذي وُلد في حضن نقلة الجوَّال، وقنوات التَّواصل، أنَّ هذه هي الحياة، وهم في ظلِّ عدم معاصرتهم لطبيعة الحياة الحقيقيَّة قبل هجمة الإدمان الصَّامت يُعذرون في ذلك، خاصَّةً أنَّ الكثيرَ الكثيرَ من الأسر رمت المنشفة، معلنةً الاستسلام لهذا الواقع، بل، وركبت موجته، تاركة الأبناء يُصارعون عزلة الحياة.
وممَّا يزيد خطر هذا الإدمان الجديد، أنَّه توسَّع في الانتشار، ليشمل حتَّى تلك المناطق الخطرة، ليعلن من خلالها وجوده وبقوَّة، بل ويتسبَّب في كوارث، وحوادث مميتة، كما هو شأن حوادث السيَّارات، التي يقف خلفها الانشغال بالجوَّال، حتَّى مع يقين أنَّها ممارسة خطرة، ومع ذلك أصبح من المعتاد أنْ تشاهدَ مَن يقود سيَّارته، وعينه في جوَّاله، ومن ذلك أيضًا لم يسلم محيط العمل، فكم من موظَّف -ونتيجة للإدمان الجديد- استقطع من وقت العمل ما ليس له بحقٍّ، لتجده على مكتبه، وكل كيانه مع عالمه الافتراضي، يفعل ذلك، وهو يعلم أنَّه يُعطِّل مصلحة العمل، ولكنَّه لا يستطيع ترك ذلك، وهو ما يُفسِّر كم هو شنيع خطر هذا الإدمان الجديد.
ذلك الإدمان، الذي يُمارسه إنسان اليوم -المغلوب على أمره- في جميع أحواله ماشيًا، وجالسًا، منفردًا أو في حضرة أحد، في مكان العمل، أو في نزهة بر ... إلخ، ولك عزيزي القارئ أنْ ترصد ذلك أينما ذهبت، لنصل إلى أنَّ إنسان اليوم يعيش واقع (إدمان) جديد، الله وحده العَالِم إلى أين به يسير؟ وعِلمي، وسلامتكُم. kmsag@hotmail.com
@KhalidMosaid