Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

مسبحة جدِّي والعمارة الحديثة

No Image

A A
في زمن تتسارع فيه مظاهر الحداثة، وتتزايد فيه موجات التَّغيير على مستويات الحياة المتفرِّعة، يحتدم الجدل حول تصاميم الدور الحديثة في أزقَّة الحي، وواجهات المباني التي بات أكثرها هجينة وغريبة المعاني، وأنا أسير مع جدِّي غلبت معالم الامتعاض على تفاصيل وجهه، وهو ينظر إلى التصاميم الحديثة، انتابني الفضول؛ كي أعرفَ ما دار في مخيِّلته في تلك السَّاعة، كما أنِّي لم أتجرَّأ على سؤاله إنْ كانت هذه الحداثة أعجبته أم لا؟ لأنِّي أعرفُ أنَّه مهما قال لا يمكنه أنْ يتجرَّد من ذكرياته لدورنا القديمة، طيِّبة العبق، حافلة الدفء، وشبابيكها الخشبيَّة تطلُّ على الباحة لمراقبتنا ونحن نلعب الكرة، حين كنَّا صغارًا، وأحسستُ أنِّي سأدخله في مأزق فكري كبير، وهو هزيل الصحَّة والبدن، ولا طاقة له لشرح تداخل الثقافات هذا.

هنا يتوارد في الذِّهن سؤالٌ ملحٌّ: هل أفرغت هذه التصاميم روح الفلكلور العربي الأصيل، أم أنَّها تطوُّرٌ بعكس الأصول الثقافيَّة في ظلِّ مسارات التحوُّل الحاليَّة؟

أقبل علينا العصر الحديث، وبرز تيار جديد من التصاميم المعماريَّة، تجرَّد من العديد من أنماطنا المعهودة، وتبنَّى فكرة الوظائفيَّة كقاعدة رئيسة له، وأخذت تُبنى المنازل لتكون أكثر فاعليَّة وملاءمة لمتطلبات الحياة المعاصرة، تصاميم مليئة بالخطوط المستقيمة، صعبة الفهم رغم استقامتها، والنوافذ الزجاجيَّة الكبيرة، والفضاءات المفتوحة الواسعة التي لم نعتد عليها، فقد يتساءل البعض: هل هذا التطوُّر يعكس ابتعادًا عن القيم الأصيلة؟ وهل غياب الرموز التراثيَّة يعني غياب الرَّوحيَّة التي كانت معلَّقةً في أسقف منازلنا التقليديَّة القديمة؟ فالحقيقة هنا ليست بهذه البساطة، فالتحوُّلات التي طرأت على المجتمع العربي بالعموم، أثَّرت بعمقٍ في مفاهيم الحياة، ولم يكن بمقدور المنازل أن تبقى في الإطار الجامد الذي يحاكي الماضي، في ظلِّ توجُّهات العصر ومتطلَّباته المتنوِّعة.

يمكننا القول: إنَّ الاختيار ليس دائمًا بين أصالة صافية، وحداثة صارمة، فهناك العديد من الخيارات التصميميَّة التي تعمل على دمج الطابع التقليدي العربي، ضمن قالب عصري حديث، ويُطلق عليه التصميم التَّوفيقي، وهذه أفكار إيجابيَّة جدًّا، وهذا النمط من العمارة يسعى لإعادة شرح العناصر التراثيَّة دون التَّخلِّي عن متطلَّبات العصر.

هنا يبرز تحدٍّ نفسيٌّ عميقٌ، حيث نجد أنفسنا أمام سؤالٍ محوريٍّ: هل يمكن للحداثة أن تخدم الفلكلور، بدلًا من محوه، ويمكنها أن تبقي التراث حيًّا وسط هذه الممرَّات المفتوحة والمساحات الزجاجيَّة؟ وإنْ وجَّهت السَّؤال لك: هل ستجد أنَّ الجوابَ معقَّدٌ؟ نعم فكلُّ هذا يعتمد على مدى استعداد المجتمع لتقدير وتفسير جذوره بالسُّبل التي تتلاءم مع مسار الحداثة.

قد يتَّفق البعض على أنَّ الإحساس بالاغتراب المكاني موجود بالفعل في التصاميم الحديثة، بالرغم من اعتماده على البساطة والحداثة المطلقة، ويجعل السكَّان في شعور دائم بالاغتراب عن ثقافتهم، ويعطيهم الإحساس بأنَّهم يعيشون في بيئة لا تعكس هويتهم الحقيقيَّة، بالإضافة إلى الابتعاد عن الروابط الاجتماعيَّة، فالمساحات الكبيرة والمفتوحة قد تؤثِّر على التفاعل بين أفراد الأسرة والجيران، على عكس التصميمات التقليديَّة القديمة التي توفِّر تعزيز الرَّوابط بشكل مستمر.

في السابق كانت الدور القديمة تعتمد بشكل كلي على مواد صديقة للبيئة، وتتناسب مع المناخ المحلي، مثل: الطين والحجر والأخشاب؛ ما يجعلها أكثر استدامة من غيرها، والعمارة التراثيَّة كانت متناغمةً بشكل كبير مع المناخ. فالجدران كانت سميكةً لتقليل الحرارة، أو عازلةً في الأجواء الباردة، في حين أنَّ التَّصاميم الحديثة غالبًا ما تعتمد على التقنيات والتكنولوجيا؛ ممَّا يزيد استهلاك الطاقة.

وإلى مطاف أخير، لا ننسى دور الذاكرة الجمعيَّة في التصميم المعماري القديم، فلطالما كانت تمثِّل ذاكرة جماعيَّة تحمل في طيَّاتها قصص الماضي والعادات والتقاليد الأصيلة، ومع اختفاء كل هذه العناصر، يفقد النَّاس جزءًا من ذاكرتهم المشتركة، التي ترتبط بتاريخهم وتراثهم، فكان جدِّي في داره القديم يعلِّق مسبحته على مسمار في الجدار، وفي دكَّة الشِّباك يطوي سجَّادة الصَّلاة، أمَّا الآن كل يوم يشتري مسبحةً، وفي الدار تضيع بين طيَّات الأرائك المستحدثة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store