أهلُ الطائف هم أوّل من ابتكر طبْخة (المندي)، وهي شواء الخروف على المنداة المدفونة في حُفرة، بحيث ينضج من تلقاء نفسه، والدُهْن الذي يرشح منه يسقط على الرزّ الموضوع في قِدْرٍ تحته، وهو يؤكل مع الطحينة، وربّما مع العسل الأصلي، ويا له من طبْخة يسيل لها اللُعاب فيما لو أُجيدت كما كانت تُجيدها عوائل طائفية ومشهورة بالتجارة فيها، مثل عائلة إياز وعائلة المنجف.
وخلال طفولتي في حي أمّ عراد (المزغدية سابقاً) بالطائف، كنتُ أتربّص إقامة المناسبات الاجتماعية للاستمتاع بأكْل المندي، وأعرف وقتَ تقديمه للمعازيم قبل وصول السيّارة التي تحمله إلى مكان المناسبة بعشرات الأمتار، حيث أشمّ رائحته الزكية، فأستبشرُ به كما أستبشرُ بالرياح التي تسبق المطر الغزير.
ومن الطائف انتشرت طبْخة المندي إلى مدن الحجاز أولاً ثمّ إلى معظم مدن المملكة، ولكن للأسف، إذ بعد وفاة أربابُ طبخه الأصليين، وتنازل ورثتهم المجّاني عن ماركة طبخه للعُمّال الأجانب، ممّن احتكروا المهنة سعياً لربح المال وليس من باب الهواية والتفنّن، فضاعت (الطبْخة) وصارت (طخّة)، ولم يعد لها شأن يعلو ويُذكرْ عند المتذوّقين!.
وبالأمس أشار عليّ أحدهم بمطعم مندي يقع في حي الرحيلي بجدّة، فاصطحبْتُ أحفادي إبراهيم ويوسف وطلال إليه، راجياً أن آكل مندياً لذيذاً مثل الذي أكلتُه في الطائف عندما كنتُ في أعمارهم الحالية، ودفعْتُ ١٠٠ ريال للنفر أي ٤٠٠ ريال في المجموع، وجاء المندي المُنتظر، فإذا بلحمه قاسي كالحجر، وتتعارك معه الأسنان خلال مضغه، وكأنّه كيبلات بلاستيك وليس لحم أنعامٍ طريٍّ ممّا يشتهون، وتختبئ قطعه بين الأسنان ولا تُخرج إلّا بمقلاع عسكري من المساويك أو أعواد الخِلال، فضلاً عن أرزّه المصبوغ الخالي من النكهة، ولولا أنّ الطعام نعمة لأسهبْتُ في ذمِّه من فجْعتي في طبْخةِ مدينتي ومسقط رأسي.
فيا سادتي: إنّ هناك جرائم اغتيال تتعرّض لها موروثات طعامنا السعودي الأصيل، ومنها المندي الطائفي، فلماذا لا يُفتح ملفّ الاغتيالات ويُعاد توطين مهن طبّاخيها؟ وتُنتشل من التشويه المُتعمّد؟ وتستعيد مذاق العراقة واللذّة والجمال؟.
talalmalgashgari@gmail.com
@T_algashgari