في الدرعيَّة كنتُ؛ وما يحدث في الدرعيَّة نموذجٌ جميلٌ وبرَّاقٌ لما تفعله مملكة سلمان، ومملكة محمد الشَّامخة؛ موطنُ العزِّ والعمل، وقبلةُ الفكر والتاريخ والمستقبل. جمعتنا هذه المرَّة الدرعيَّة حول المعرفة، وحول سجال التاريخ وأسرار الحضارة، في (ملتقى الدرعيَّة الدَّولي) الذي تنظِّمه هيئةُ تطوير بوابة الدرعيَّة هذا العام، تحت شعار: (الدرعيَّة عند ملتقى التاريخ والتجارة: دور المنطقة الوسطى في التبادل العالمي)، وتهدف به إلى تعزيز الأبحاث الأكاديميَّة عن الدرعيَّة، والمنطقة الوسطى، ودراسة تاريخهما العريق، وتراثها المتجذِّر في الثقافة السعوديَّة.
يقول البرنامج إنَّ الملتقَى «منصَّة لاستكشاف وتبادل المعارف، حيث يجمع مجموعةً متنوِّعةً من الباحثين والممارسين والمهتمِّين بتاريخ المنطقة وتراثها الثقافي». وهذا ما لمسناهُ خلال يومين ثقافيَّين بامتياز (باحثُون، ومؤرِّخون، وخبراءُ اقتصادٍ وعمارةٍ وجيولوجيا)، يحتشدُون من كلِّ مكان في العالم، للمشاركة بأفكارهم، وإثراء النقاش حول أهميَّة المكان، ودوره المركزي في صنع حضارة إنسان الجزيرة. هذا ما أشار إليه سمو الأمير فيصل بن سلمان رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز في كلمته الافتتاحيَّة، على مسمع أخيه سمو الأمير سلطان بن سلمان الذي دشَّن -بعد الافتتاح- كتابَ (الملك سلمان)، وهو كتابٌ يوثِّق سيرة ملكنا الشَّامخ -حفظه الله-، أصدرته مؤسَّسة التراث غير الربحيَّة.
والدرعيَّة مكانٌ جاذبٌ للحنينِ، بقدر ما يمثِّل نافذةً للفرص المعرفيَّة والاقتصاديَّة والسياحيَّة، ومن هنا يكون استثماره قوةً ناعمةً، ومنصَّةً لتأثيث الذَّاكرة بسرديَّات تاريخيَّة ذات معنى. أكتبُ هذا بعد أنْ حضرتُ جلسة بعنوان (قراءة التاريخ من منظور بصري: قوَّة التَّفسير المرئي) للمستشارة الثقافيَّة غادة المهنا، وقد كانت جلسةً مميَّزةً وشيِّقةً، تأخذنا إلى أبعاد عميقة حول ما يمكن أنْ تقدِّمه العلامات غير اللسانيَّة (مثل الصُّور الفوتوغرافيَّة) في بناء سرديَّات تاريخيَّة موازية. غادة باحثةٌ شغوفةٌ، يحرِّكها هاجسُهَا المعرفيُّ، وتدركُ -أيضًا- أنَّ كتابة التَّاريخ عمليَّة حسَّاسة وخطيرة، وأنَّ بناء الذَّاكرة وتأثيثها يسهمان في السَّيطرة على سرديَّة التَّاريخ وتوجيهها. غادرتُ الجلسة مأخوذًا.. ولم أستطعْ أنْ أكونَ غير ذلك!
ضمَّ الملتقَى برنامجًا ثقافيًّا ثريًّا ومنوَّعًا؛ ندوات، ومعارض، وورش عمل، وجلسات حواريَّة تناولت عددًا من الموضوعات والقضايا التاريخيَّة والأنثروبولوجيَّة المختلفة، مثل تاريخ الدرعيَّة، واقتصادها عبر التَّاريخ، وأبرز الفنون الأدائيَّة، كما تناول المشاركُون العمارةَ النجديَّة، وتجارةَ الإبلِ، وطقوسَ القهوةِ. كلُّ هذا يطوفُ حول كعبة الأمن والاستقرار اللَّذين توفَّرا بفضل الله، ثم بفضل هذا الكيان الذي بناه المؤسِّس، وسار أبناؤه، وأحفاده على خطاه.
انتهت -الآن- جلسة عن المعمار في نجد، وضمت حديثاً عن الأدوات، والتقنيات، والتصاميم. كنت أفكر في أن الإنسان يعمر الأرض، يشكلها، وينفث في كل ما يصنع من روحه، وذاكرته، وأحلامه. فيصبح ما يفعل علامة تدل عليه، وملامح تكون هويته. العمارة بذلك امتداد حسي للإنسان في هذا الوجود.
كنتُ سأغادرُ لولا أنَّ مقدِّم الجلسات سلبني بديباجةٍ أدبيَّة راقية، أتحدَّث هنا عن الدكتور بندر الغميز، الذي كان نجمًا من نجوم هذا الملتقَى، وكان في ديباجته يقدِّم لجلسة الباحث عبدالله بن كليب، عن القهوة وطقوسها، وعلاقتها الرَّاسخة بإنسان هذا المكان. عنوان الجلسة يقول الكثير: (الفنجال.. رسولُ السَّلام)، ووجدتُ نفسي أصافحُ روحَ محمد الثبيتي: «أدرْ مهجةَ الصبحِ.. صُبَّ لنا وطنًا في الكؤوسِ.. يديرُ الرؤوسَ، وزدنَا مِن الشَّاذليَّةِ حتَّى تفيءَ الرَّبابةُ..».
الدكتور بندر كان من نجوم الملتقَى. هذا صحيحٌ، لكنَّه لم ينفرد بالنجوميَّة وحده، كما يفعل سالم الدوسري أحيانًا. بل كان خلف العمل المبهج -تنظيمًا وإدارةً- فريقٌ رائعٌ من أبناء وبنات هذا الوطن؛ بالابتسامة والرُّوح الجميلة لم يتركونا خلال يومين مكتظين نحتاج لأيِّ شيء، أو نفكِّر في أيِّ شيء غير الملتقَى وأنشطته. فشكرًا لهم، وشكرًا للدرعيَّة التي جمعتنا بهم.