Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد

A A
أكتبُ -الآنَ- وبينَ يديَّ كتابُ صديقي النَّاقد الدكتور صغيّر العنزي (خطاب العنف وعنف الخطاب).

ولا أخفيكُم أنِّي أشعرُ بحبور وهمَّة؛ حبور البَّاحث الذي وجد بين يديه نصًّا خلَّاقًا مُستفزًّا ومُحفِّزًا على التَّفكير والتَّحليل، وهمَّة الناقد المعتاد على الجدل والمشاغبة الثقافيَّة.

لا يكتبُ صغيّر العنزي ليرضيَ أو يداهنَ، ولا تبدُو المكتسبات الصَّغيرة ضمن أولويَّاته المعرفيَّة، لذلك أجدُ فيه ناقدًا جريئًا ومُثريًا؛ ولعلَّ هذا الكتاب الذي انتهيتُ منه -الآنَ- لا يقلُّ جرأةً ولا ثراءً؛ لا في طرحه المعرفيِّ وحسبْ، بل في انضباطه المنهجيِّ.

تشغل العلاقة بالتُّراث حيِّزًا من اهتمامات الدكتور صغيّر، لكنَّها ليست علاقة افتتان عمياء، أو تبعيَّة سطحيَّة، بل هي علاقة مدارسة ومساءلة وكشف؛ كشف عن الأفكار، وعن تناقضات الخطاب وحِيله في الهيمنة، وتكريس الأفكار وترسيخ التمركزات والتحيُّزات ضد الآخر المختلف.

تفكِّرُون -مثلي الآنَ- في مفهوم فوكو للخطاب، ولنْ ألومكم، فهُو الذي سكَّ لنا دربًا هنا، وهو الذي قال يومًا إنَّ «الخطابَ ينقل السلطة وينتجها ويقوِّيها، ولكنَّه -أيضا- يُلغِّمها ويفجِّرها، يجعلها هزيلةً ويسمح بإلغائها».

والكتاب نموذجي في طرحه وفي منهجيته؛ لذلك تسير معه مطمئناً، يبدأ في مقدمته بتحديد أهمية موضوع الدراسة، ويحدد الإشكالية والأسئلة التي يسعى للإجابة عنها.

كما يحدد النقد الثقافي منهجاً للدراسة لما يوفره من قدرات على الكشف عن الأنساق، وتحليل آليات اشتغالها، ومدونة الكتاب محددة بوضوح، فهو يناقش واحداً من أشهر كتب الأمثال، أعني كتاب (مجمع الأمثال) للميداني.

يركِّز الكتاب على استخلاص خطاب العنف الكامن خلف الأمثال العربيَّة، وخلف القصص التي حِيكت حولها، وكانت بمثابة الحواضن التي بزغَ منها كل مثل.

كانت الحكاياتُ التجربةَ، والأمثلةُ المقولاتِ النَّابعةَ منها، ومن هنا تبرزُ أهميَّة الخطابين: خطاب المثل، وخطاب الحكاية، التي تنتجه أو تكون نتاجًا له.

واختيار الأمثال جميلٌ وذكيٌّ؛ لأنَّ الأمثال التي تتسلَّح -في العادة- بالجميل والحكيم (تُصاغ بأسلوبٍ لافتٍ غالبًا، وتعكس عمقًا في التَّجربة)، تكتسب صفات الانتشار والعبور في المكان والزَّمان، لتتحوَّل إلى ما يشبه السلطة؛ سلطة تمثيلها للحقِّ؛ لأنَّها نتاجٌ لتجربةٍ عميقةٍ وصادقةٍ، وسلطة أُخْرى -تالية- تتمترسُ خلف تداولها واستعمالها في سبيل المحاججةِ والإسكات، دون تمحيصٍ وتنبُّهٍ لما تنطوي عليه من عناصر وآليَّات للتحيُّز والإقصاء والقمع أحيانًا.

وقد وفَّر

د. العنزي إجابةً واضحةً لدوافع اختياره الأمثال نموذجًا لخطاب العُنف الذي يحلِّله، قائلًا: «لأنَّها تنطوي على عناصر ملائمة لكمون النَّسق وهي: 1) القائل المجهول غالبًا، 2) الاستقبال العمومي، 3) عبور التَّاريخ، 4) التأثير والبلاغة.

والعنفُ الذي يكشف عنه نسقُ الأمثال موجَّه للذكورة والأنوثة، وممارساته تكون على الذَّات كما تكون على الآخر، ولذلك يأتي تقسيم الكتاب ليغطِّي هذه الجوانب دون تحيُّزٍ منهجيٍّ.

يتناول الكتابُ عددًا كبيرًا من الأمثال الشَّهيرة، منها على سبيل المثال قولُ العرب (أخسرُ من شيخٍ مهو)، و(إنْ لمْ تكنْ ذئبًا أكلتكَ الذِّئابُ)، و(مَن عزَّ بزَّ)، و(مَن غَلبَ سَلبَ)، و(أفتكُ من الحارثِ)، وهناك -طبعًا- خزينةُ الأمثال الموجَّهة للأُنثى مثل (ذنبِي ذنبُ صُحْرٍ)، و(قَطَعتْ جهيزةُ قولَ كلِّ خَطيبٍ)، و(لَا ناقةَ لِي فِي هذَا وَلَا جَمَل) علمًا أنَّ الفصل الثَّاني من الكتاب مخصَّص لعُنف الخطاب تجاه الأُنثى.

تعتمد قوَّة العُنف في هذه الأمثال على عدَّة ركائز كالعصبيَّة التي تستدعي تغييب العقل، وتغليب العاطفة، وبالتَّالي تكريس التوحُّش على حساب الإنسانيَّة، وتسويغ الظُّلم، والتحيُّز الطبقي الذي يعطي الحقَّ للقويِّ وإنْ ظَلَمَ، علَى الضعيفِ وإنْ ظُلِمَ. وفيما يخصُّ المرأة سنجدُ أنَّ النَّسق يستغل ضعفها ليبني عليه مواقفَ وأحكامًا جاهزةً، تجعل من ضعفها نقصًا في عقلها، وعيبًا يشوِّه قدرتها على الحُكم، وعلى فعل الصَّواب.

يشكِّل التَّحليلُ المنهجيُّ نقطةَ قوَّةٍ وإقناعٍ في هذا العمل المهم؛ فهو لا يقفُ عند الحمولات الدلاليَّة، والمعاني التي تفضي إليها القصص والأمثال وحسبْ، بل ينظر في كيفيَّات إيصال الخطاب، وآليَّات صناعة المعنَى.

(ليسَ مَا يُقال فقطْ، بلْ كيفَ يُقال مَا يُقال) وسنرَى هنا أنَّ كثيرًا من حِيل النَّسق وألاعيب الهيمنةِ تقبعُ في صيغِ الخطاب.

يمكن الإشارة إلى قصَّة لقمان الحكيم وقتله ابنته التي كانت خلف -أو نتيجة- المثل (ذنب صُحر)، حيث يتوسَّل النَّسق بقوَّة الحكمة التي جعلت من فعل لقمان الظَّالم لابنته أمرًا مبرَّرًا.

من ذلك أيضًا تحليل الكتاب للحِيلة التي يستخدمها الجاحظ في كتابه «الحيوان»؛ لإثبات وجهة نظره، وهي حِيلة لا تخلُو من إخفاء وانتقاء وتحيُّز، وهكذا تشكِّل الأمثالُ امتدادًا لخطاب الثَّقافة الذي يعمل على تصفية الأُنثى جسديًّا وثقافيًّا.

أتركُ -الآنَ- الكتابَ، ولكنَّ أفكاره ومنهجيَّة طرحه لن تتركني بسهولة.. هذَا ما تفعلُه الأعمالُ الحقيقيَّةُ!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store