كم أشقانَا كلامُ النَّاس، مهما أسعدنا القليلُ ممَّا قالوه أحيانًا!..
يقول أحدهم: إذا ارتديتَ ملابسَ أنيقةً؛ ينظرُ إليك النَّاس على أنَّك متباهٍ، أمَّا إذا ارتديتَ ملابسَ بسيطةً؛ ينظرون إليك نظرةَ استهانةٍ وأنَّك فقيرٌ.
إذا عبَّرتَ عن رأيك، فأنتَ وقحٌ، وإذا بقيتَ صامتًا، فأنتَ جبانٌ. أمَّا إذا كنتَ ناجحًا، فأنتَ متعجرفٌ، وإذا كنتَ تكافح، فأنتَ كسولٌ. كما ترى مهما فعلت في الحياة؛ فالنَّاس لديهم شيء يقولونه عنك!.
ما هو الحل إذًا؟ يقول: تَجَاهَلَ النَّاسَ وآراءَهُم ما دام خالقُكَ راضيًا عنك، ولا تهتم بما يقوله النَّاس.
فاروق جويدة الشَّاعر المصري قال:
يقولُ النَّاسُ يَا عُمري
بأنَّـك سـوفَ تَنسَـانِي
وتنْسَى أنَّني يومًا
وهبتُكَ نبضَ وجدَانِي
وتعشقُ موجةً أُخْرَى
وتَنْسَى دفءَ شطآنِي
إذًا كلامُ النَّاس يُشقِي حتَّى العاشقين، لا يؤلم فقطْ النَّاس في ملبسهم ومطعمهم، في صمتهم وجهرهم، في نجاحهم وجهادهم، بل لا يرحم العاشقَ، يفرِّق بين الأحبَّة، بين الأصدقاء، بين الأخوة والأخوات، بين الزَّوج والزَّوجة.
فهلْ لازلنا ننصتُ لكلامِ النَّاس؟!.
أجل للأسف، بل نبحثُ عن صورتنا في عيون الآخرين، نبحث عن فرحتهم بنجاحنا، بأناقتنا، بمستوى نجاح أبنائنا، حتَّى في مناسباتنا؛ نُحمِّل أنفسنا فوق طاقتها حتَّى نُعجبَ النَّاسَ، لا نسعى لتكتمل فرحتنا، بل يؤرِّقنا «ماذا يقولُ النَّاسُ».
لماذا لا نكتفي برضانا عن قناعاتنا، عن قدراتنا، عن إمكانياتنا؟!.
لماذا نجعل كلام النَّاس هو المقياس أو الميزان الذي نزنُ به أمورَ حياتنا؟!.
يقول فارق جويدة:
تركتُ ظنونَ النَّاسِ عنِّي ورأيَهُم
فقدْ كَانَ يَكْفينِي صَحيحُ ظُنُونِي
وأَعْرفُ مِن نَفْسِي الذِي يَجْهلُونَهُ
وأفهمُ ذَاتِي فِي جَميعِ شُؤونِي
وَلَا أرقبُ التَّقديرَ فِي عَينِ نَاقِصٍ
إذَا كانَ قدْرِي كَاملًا فِي عُيونِي
أجل هو هذا المبدأ، أنْ تعرفَ نفسك، تثق في قدراتك، إمكانياتك، مهاراتك، فلكلِّ إنسان محبٌّ وكارهٌ، وفي هذا استشهد بما قاله الإمام الشَّافعي:
وَعَينُ الرِّضَا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُّخطِ تُبدِي المَساوِيَا
وَلَسْتُ بِهَيَّابٍ لِمَن لا يَهابُنِي
وَلَسْتُ أَرَى لِلمَرءِ مَا لَا يَرَى لِيَا
فَإِنْ تَدنُ مِنِّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتِي
وَإِنْ تَنأَ عَنِّــي تَلقَنِــي عَنــكَ نائِيَا
كِلَانَا غَنيٌّ عَن أَخيهِ حَياتَهُ
وَنَحــنُ إِذا مِتـنـا أَشَــدُّ تَغــانِيـا
ما أجمل هذه المعاني التي نظمها الشُّعراءُ والعلماءُ شعرًا ونثرًا عن وعيٍ وإدراكٍ؛ بما يعاني منه النَّاسُ من كلامِ النَّاسِ، ومن الخشية من كلامِ النَّاسِ.
كم سمعنا ورأينا مَن تكلَّف فوقَ طاقته، وتحمَّل أكثر من إمكانيَّاته؛ ليرضي النَّاسَ، ومع ذلك فـ(رِضَا النَّاس غَايةٌ لَا تُدْرَك).
كم مهمومٍ، وكم مُحبطٍ، وكم...، وكم...، وكم... بلا عدٍّ ولا حصرٍ، ضحايا كلام النَّاسِ؟!.
ليس الهدف من كلامي عدم الاهتمام بآراء الناس، وتخطي الحدود، والخروج عن الآداب، والتعالي على الناس، بل موازنة الأمر، لا إفراط ولا تفريط، لا ضرر ولا ضرار، أي لا تجهد نفسك، وتحملها فوق طاقتها لإرضاء الآخرين فقط! بحيث لا نفرط فيمن نحبهم، ومزيد من الاهتمام بالأحبة والأصدقاء الذين ترى الفرحة في عيونهم لفرحتك لنجاحك، وتراهم يتألمون لألمك، ويتغاضون عن خطئك، ويشتاقون للقياك، لكنْ وأنتَ بطبيعتك وبساطتك وتلقائيتك دون تكلُّف، وتحميل النَّفس فوق طاقتها.
يقولُ الأمير عبدالله الفيصل في قصيدته ثورة الشَّك: يَقُولُ النَّاسُ إنَّكَ خنْتَ عَهْدِي
وَلَمْ تَحْفَظْ هَوَايَ وَلَمْ تَصُنِّي
ما أشقَى العاشق بكلام النَّاسِ؛ لأنَّه سرعان ما يصغي لكلامهم؛ نظرًا لرقَّة طبعه، وخوفه من فراق المحبوب، لذلك يسهل على الحسَّاد والحاقدين إثارة الشَّك بخيانة، أو خداع المحبوب، كما عبَّر عنها عبدالله الفيصل في قصيدة ثورة الشَّك.