انتهَى قبلَ أسبوعَين مهرجانُ البحر الأحمر السِّينمائي الذي تحتضنه جدَّة سنويًّا بكلِّ دفءٍ، وجدَّة جديرةٌ بمهرجان مثل هذا؛ لأنَّها -منذُ عرفنَاها- قبلةُ الفنونِ والجَمَال والإبداع. ما أجمل أنْ تكون جدَّة قبلةً لكبار الفنَّانين الذين أثروا المخيال العالمي بأعمالهم المُلهمة والمُدهشة، وما أجمل أنْ يسهم مهرجان مثل هذا في بناء صناعةٍ سينمائيَّةٍ حقيقيَّةٍ في مملكتنا الحبيبة؛ لأنَّ السِّينما -مثل باقي الفنون- تعملُ على رفع الوعي، وتنوير المجتمعات، وتذكير الإنسان بقِيَمه الإنسانيَّة العُليَا، تلك التي تجمع البشر حول مشتركاتهم، مهما باعدت بينهم المسافاتُ والآيديولوجيَّاتُ.
وهذا ما لمسته في عدد من الأفلام التي سنحت لي الفرصة أنْ شاهدتها في المهرجان، وقد دعتني الصَّديقة الإعلاميَّة نور سعيد لمشاهدة فيلم لطيف بعنوان (سلمى وقمر)، يعالج علاقة الذَّات بالآخر. سلمى طفلةٌ تشكِّل علاقةً مع سائقِها قمر السوداني، وتتطوَّر العلاقة ليصبح قمر سائقًا، ثمَّ صديقًا، ثمَّ حارسًا، ثمَّ بديلًا لأبيها الذِي يموت. الجميلُ أنَّ المخرجة عهد كامل كشفت لنا أنَّها قصَّةٌ حقيقيَّةٌ، وأهدت الفيلم إلى محيي، سائقها الذي وافته المنيَّة -رحمه الله- لمسة وفاء نبيلة.. هناك الكثير ممَّا يدعو للتأمُّل في هذا الفيلم، وفي رسالته التي يقدِّمها للمشاهدين على شكل قصَّة معروضة على شاشة كبيرة. تخلق السِّينما جوًّا خاصًّا، يمكِّنها من إيصال رسالتها -أو رسائلها- عبر قالبٍ جذَّابٍ ومُمتعٍ.
إن واحدة من أهم المزايا التي تذكر للسينما، هي أن مرتاديها يتركون كل شيء، ليقضوا ساعتين أو أكثر في غرفة مظلمة تماماً، يثبتون فيها أعينهم نحو شاشة تستمر في بث الرسائل والصور. وكثيراً ما تأتي هذه الرسائل والصور على صيغة عبارات مكثفة ومشحونة بالحكمة والشاعرية، التي تأخذ متلقيها نحو آفاق من التأمل والتفكير العميق.
يقول كارل ماركس الصَّغير (The Young Karl Marx, 2017): «كلُّ شيءٍ عرضةٌ للتَّغيير، لا شيءَ يدومُ». فتسوقُ العبارةُ خيالَ المشاهدِ نحو هذا الوجود الذي يخلُو من أيِّ حقيقةٍ ثابتةٍ فيه سوى التَّغيُّر. ونشاهدُ شون كونري (Sean Connery) وهو يؤدِّي دورَ الشَّاعر المتخيّل ويليام فورستر في فيلم (البحث عن فورستر- Finding Forrester، 2000)، ويقول: «نحنُ نهربُ من أحلامنا؛ لأنَّنا نخشَى أنْ نفشلَ، أو الأسوأ من ذلك؛ لأنَّنا نخشَى أنْ ننجحَ». فلا نستطيع أنْ تسيطر على عقولنا وهي تسبح في عمق هذه العبارة وأبعادها.
إنَّ واحدةً من نقاط قوَّة السِّينما -في رأيي- تكمنُ في انفتاحها على الحياة، باعتبارها مفهومًا واسعًا للتَّفكير، والاختلاف، والمضي قُدُمًا. تقدِّم السِّينما في كثير من جوانبها محتوًى مغايرًا، مخالفًا للسَّائد، ولا تنقصه الحكمة مع ذلك. الفيلم السينمائي -في رأيي- شيخٌ خبيرٌ فَهِمَ الحياةَ كمَا يجب، وعرفَ قدرَهُ فيهَا، وحظَّهُ منهَا. شيخٌ يتلبَّسُ مرَّةً مارتن لوثر كينق (Martin Luther King)، الذي يؤدِّي دوره البريطاني ديفيد أويلوو-David Oyelowo في فيلم (سِلما - Selma، 2014)، يتلبَّسه في آخر أيَّامه وهو يعلن «نحنُ لا نعيشُ حياتنَا بشكلٍ كاملٍ إذا لمْ نكنْ مستعدِّين للموتِ مِن أجلِ مَن نحبُّهُم، ومِن أجلِ مَا نُؤمنُ بِهِ»، وأُخرى يختارُ لينطقَ بلسانِ عالم الفيزياء العجيب -بتجربته الصَّعبة وكشوفاته العظيمة- ستيفن هوكينق، وهو يذكِّرنا بإصرار: «يجبُ ألَّا تكون هناك حدودٌ للمساعِي البشريَّة. نحنُ جميعًا مختلفون، ومهما بدت الحياة سيئةً، فهناك دائمًا شيءٌ يمكنك القيام به، والنَّجاح فيه. طالما هناك حياةٌ، فهناك دومًا أملٌ».
وتارة يختار شيخ السينما، شيخًا غريبَ الأطوار والتجربة، كان عمره يتناقص فيما تزداد أعمارُ النَّاس. إنَّه بِنجامين بوتِن (براد بيت- Brad Pitt)، بطل فيلم (الحالة الغريبة لبنجامين بوتن- The Curious Case of Benjamin Button، 2008)، ذلك الذي وُلِدَ عجوزًا، ومَاتَ طِفلًا رضيعًا، بعد أنْ شاهد كلَّ مَن حوله يشيخُون ويقضُون هرمًا، ليذكِّرنَا دومًا: «إنَّها الفُرَصُ هِي مَا يصوغُ حيواتِنَا، بما في ذلك تلك الفرص التي نُفوِّتها».
مهرجان البحر فرصةٌ سنويَّةٌ سانحةٌ، لم نعد نفوِّتها، بعدَ أنْ فات علينا الكثير والكثير.